حوار هوى الشام| بعد انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد، عادت الدكتورة ملاك بيرقدار إلى مدينتها داريا المهدمة، التي هجرت منها قسرًا نتيجة إجرام النظام السابق ، وانطلقت من هناك بمبادرتها الإنسانية والتعليمية “الإنسان قبل البنيان”، التي تهدف إلى بناء الإنسان السوري من خلال التعليم والتأهيل المهني، مستفيدة من نجاحها في عدة مبادرات في تركيا والإمارات، لتكون سندًا لعائلات الشهداء والأيتام وتساهم في إعادة إعمار المجتمع السوري.
في هذا الحوار الموسع لموقع هوى الشام ، تفتح الدكتورة ملاك قلبها وتكشف عن تفاصيل مبادرتها، و رؤيتها الشعرية، ودورها في بناء سوريا الجديدة.
– دكتورة ملاك، بدايةً نرحب بعودتك إلى سوريا بعد سنوات من التهجير القسري ، كيف كانت هذه العودة، وما الذي دفعك لإطلاق مبادرة “الإنسان قبل البنيان” ؟
شكرًا لكم، والعودة إلى داريا كانت لحظة عاطفية عميقة لا توصف ، داريا ليست مجرد مدينة بالنسبة لي، بل هي جذوري وذاكرتي، رغم ما حل بها من دمار وإجرام ، وبعد سنوات من التهجير في تركيا والإمارات، حيث عملت على مبادرات إنسانية وتعليمية، شعرت أن الوقت قد حان لعودة فعلية إلى الأرض التي ولدت وترعرعت فيها، لأساهم في إعادة بناء الإنسان السوري الذي هو الأساس الحقيقي لأي إعمار.
مبادرة “الإنسان قبل البنيان” انطلقت من قناعة أن إعادة إعمار البنية التحتية وحدها لا تكفي، بل يجب أن نبني الإنسان أولاً، لأنه هو من سيحمي الوطن ويطوره ، وأردنا أن نكون سندًا للأيتام وعائلات الشهداء الذين تحملوا الكثير، ونمنحهم أدوات التعليم والتأهيل المهني ليصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم والمساهمة بفعالية في مجتمعهم.
– حدثينا أكثر عن أهداف المبادرة وما الذي تسعى لتحقيقه على المدى القصير والطويل؟
هدفنا الأساسي هو النهوض بالمجتمع السوري من خلال التعليم والعمل، بحيث لا يبقى أي فرد محتاجًا بل يصبح عونًا لغيره ، فنحن نؤمن أن بناء
الإنسان هو حجر الأساس لأي تنمية مستدامة، لذلك نركز على تقديم فرص تعليمية وتأهيلية متنوعة تلبي احتياجات مختلف الفئات العمرية والاجتماعية.
على المدى القصير، نعمل على توفير دورات تأهيل علمي وأكاديمي، بالإضافة إلى دورات مهنية تفتح آفاق عمل جديدة ، ونسعى أيضًا لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأسر المتضررة، لأن الإنسان لا يمكن أن يبني أو يعمر وهو مثقل بالآلام النفسية.
أما على المدى الطويل، فنطمح لتحويل المبادرة إلى مؤسسة رسمية ومستدامة، تساهم في تخريج كوادر مؤهلة قادرة على المشاركة في إعادة إعمار سوريا، وتوفير بيئة تعليمية ومهنية متطورة تعزز من قدرات الشباب والنساء على حد سواء.
– ما هي أنواع الدورات والأنشطة التي تقدمونها ضمن المبادرة؟ وكيف تختارون البرامج التي تلبي احتياجات المجتمع؟
نقدم مجموعة واسعة من الدورات التي تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية:
الدورات العلمية والأكاديمية: مثل دورات الرشيدي، إعداد المعلم، إتقان، فقه، واللغات العربية، الإنجليزية، والفرنسية. كما نوفر تقوية في المناهج
الأساسية كالرياضيات، اللغة العربية، الفيزياء، والكيمياء، لأننا نؤمن أن التعليم الأكاديمي هو أساس بناء الإنسان الواعي.
الدورات المهنية: تشمل الخياطة، التطريز، الحلاقة، التجميل، التصميم، البرمجة، وصناعة الحلويات. هذه الدورات تفتح فرص عمل مباشرة وتساعد في تمكين النساء والشباب اقتصاديًا.
الدعم النفسي والاجتماعي: نوفر استشارات طبية ونفسية وأسرية تطوعية من مختصين، لأننا نعلم أن الإنسان السليم نفسيًا هو أكثر قدرة على التعلم والعمل والإنتاج.
نختار البرامج بناءً على دراسة دقيقة لاحتياجات المجتمع المحلي، ونستشير الكوادر التعليمية والخبراء لضمان ملاءمة المحتوى، كما نأخذ بعين الاعتبار آراء المستفيدين أنفسهم لتطوير برامجنا باستمرار.
– بعد التدريب، ما هي فرص العمل المتاحة للمتدربين؟ وكيف تضمنون استمرارية الدعم لهم؟
نحن لا نكتفي بالتدريب فقط، بل نحرص على توفير فرص عمل حقيقية، و بعد التأهيل، نعمل على تشغيل الكوادر من خلال فتح معاهد ومنشآت صغيرة في المناطق التي نعمل بها، مثل الغوطة الغربية والشرقية وقطنا. كما
نحرص على أن يحصل الكادر التعليمي والإشرافي على أجر عادل حسب ساعات العمل، مما يخلق بيئة عمل محفزة ومستدامة.
بالإضافة إلى ذلك، نربط المتدربين مع جهات عمل وشركات محلية، وندعمهم في بدء مشاريعهم الصغيرة من خلال توفير الاستشارات والدعم الفني ؛ كما نعمل على بناء شبكة من المتطوعين والخبراء الذين يقدمون استشارات طبية ونفسية واجتماعية، لضمان استمرارية الدعم الشامل للمتدربين وأسرهم.
– كيف تقيمين أثر مبادرتك حتى الآن؟ وما هي أبرز الإنجازات التي حققتموها؟
بفضل الله ثم جهود فريق العمل والمتطوعين، حققنا إنجازات ملموسة .. ، افتتحنا مراكز تعليمية ومهنية في الغوطة الغربية والشرقية، ونظمنا دورات حضورية وأونلاين، مما سمح لنا بالوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين ، واستفاد من المبادرة حتى الآن أكتر من ٢٠٠ عائلة ، كما بدأنا تجهيز مدارس وعيادات ومشاغل لتوفير بيئة متكاملة للتعليم والعمل.
الأثر الأكبر هو في تغيير حياة الأفراد الذين استفادوا من برامجنا، حيث أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم وأكثر قدرة على الاعتماد على الذات ، و تلقينا
رسائل شكر من عائلات شهداء وأيتام، وهذا هو أكبر حافز لنا للاستمرار. بالطبع، الطريق طويل، لكننا نؤمن أن كل خطوة صغيرة تبني جسور الأمل نحو مستقبل أفضل لسوريا.
– إلى جانب مبادراتك، أنت شاعرة وطبيبة أسنان ، كيف يجتمع الشعر والطب والعمل الإنساني في شخص واحد؟
الطب والشعر هما توأمان في حياتي ، فالطب يعالج الجسد، والشعر يداوي الروح ، وفي عملي الطبي، أتعامل مع الألم الجسدي وأحاول تخفيفه، أما الشعر فهو لغة القلب التي تضيء دروب الأمل وتعيد تشكيل الجمال في النفس.
بدأت رحلتي مع الشعر في عمر العشر سنوات، في بيت عشق الشعر وأرض تنطق بإيقاع القصيدة، و شعري إنساني بامتياز، يلامس الوجدان وينثر الأمل، ويعيد بناء رؤية الإنسان لوطنه ولذاته.
أصدرت دوانين هما “طقوس العاشقين” و”أنت إنسان”، التي تعكس قوة الإنسان وقدرته على التحدي والصمود.
الشعر يمنحني القوة للاستمرار في العمل الإنساني، والطب يذكرني دومًا بأهمية الرحمة والعطاء ، فهذان المجالان يكملان بعضهما، ويشكلان جزءًا من رسالتي في الحياة.
– كيف ترى دور المثقفين في إعادة إعمار سوريا وبناء مستقبلها؟
المثقفون هم جسر لنقل تجارب الأمم الناجحة، وهم صناع الوعي الحقيقي ، فبعد الثورة، كتبتُ نصاً وجدانياً بعنوان “فتحنا البلاد.. وحان وقت فتح العقول”، لأنني أؤمن أن تحرير الأرض لا يكتمل إلا بتحرير العقول من التبعية والتعصب.
الإعمار يبدأ من الداخل، من تحرير الذات وزرع قيم الاحترام والتعاون.. ، نحن بحاجة إلى مبادرات تعاونية تذوب فيها الأنا لصالح الوطن، حيث يعمل الجميع بروح الفريق الواحد، و المثقفون عليهم مسؤولية كبيرة في نشر ثقافة السلام والتسامح، وتعزيز قيم المواطنة الحقيقية.
– ما هي رسالتك لكل من يرغب في دعم سوريا ومستقبلها؟
رسالتي لكل سوري وطني هي أن يساهم في بناء الإنسان قبل البنيان، وأن يحول مشاعره إلى عمل ، فالوطن بحاجة لكل واحد منا، سواء بعلمه
أو مكانه.. ، لا تنتظر أن يقوم الآخرون بالمبادرة، فكل منا قادر أن يكون مبادرًا.
فلنحرر الإنسان أولاً، ونزرع الأمل في النفوس الجريحة، لأن الإنسان هو الثروة الحقيقية التي لا تنضب، و لن ننهض إلا إذا اتفقنا على الخير، وتجاوزنا الفرقة والتعصب، وجعلنا هدفنا بناء الإنسان بالعلم والرحمة والإحسان.
نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن يعيننا على خدمة أهلنا ووطننا، فالسعادة الحقيقية في إسعاد الآخرين.
– كلمة أخيرة تودين توجيهها للمجتمع السوري والعالم؟
الثورة علمتنا أن الدم يروي شجرة الحرية، وأن الكلمة الصادقة تبعثر الظلام ، و الشعر سيبقى صوت سوريا الجديدة، وطن يُبنى بالإنسان وللإنسان.. ، علينا أن نؤمن بأن الإنسان هو البداية والنهاية، وبأن كل جهد مهما كان صغيرًا يزرع بذرة أمل في أرضنا الجريحة.
أدعو الجميع لأن يكونوا سفراء للخير، وأن يشاركوا في بناء مستقبل سوريا بكل حب وإخلاص ، فالوطن لا يُبنى إلا بقلوب متحدة وعقول مستنيرة، وبأيدٍ تعمل بلا كلل.
بهذا الحوار، رسمت الدكتورة ملاك بيرقدار صورة ملهمة عن الإنسان السوري الذي سيعيد بناء وطنه من رحم الألم والدمار، مستندة إلى العلم، الثقافة، والعمل الإنساني النبيل.
السيرة الذاتية المختصرة للدكتورة ملاك بيرقدار:
1. المؤهلات العلمية والمهنية:
– طبيبة أسنان، تمارس المهنة بجانب عطائها المجتمعي.
– ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، مما أثرى مشروعها الثقافي بالعمق الشرعي والأدبي.
– دكتوراه فخرية كمدربة وشهادة مدرب معتمد، مع خبرة في قيادة المؤسسات التعليمية كـمديرة معهد الأنصار سابقًا.
2. الإسهامات الأدبية والعلمية:
– كاتبة وشاعرة أصدرت:
– “أنت إنسان”: كتاب يرافق مبادرة تحمل الاسم ذاته، صدر عن دار الأمل بدمشق، ورُوِّج له في معرض الشارقة الدولي للكتاب.
– “طقوس العارفين”: ديوان شعري صادر عن دار الغانم، وموثق من اتحاد الكتاب العرب.
– مشاريع قيد الطباعة:
– “ماذا تقول لنا الآيات”: تدبر علمي وبلاغي للقرآن عبر الشعر.
– “حقًّا محمد رسول الله”: أبحاث عن سيرة النبي (ص)، يُترجم لأربع لغات.
3. المبادرات المجتمعية البارزة:
– “أنت إنسان” (الإمارات، 2019):
– ركَّزت على التثقيف الصحي والعلمي، وتسهيل العلاج للمحتاجين.
– “تعليم العربية لأطفالنا في أوروبا”:
– منهاج تعليمي شعري للأطفال عبر منصة “جيل المستقبل”، لحماية الهوية اللغوية.
– “بناء الإنسان قبل البنيان” (سوريا):
– دعم متكامل لعائلات الشهداء (نفسي، صحي، تعليمي، مهني).
– تشمل دورات في اللغة العربية، العلوم الشرعية، والمهارات الحرفية (الخياطة، البرمجة…).
– تعاون مع كوادر مختصة لتمكين المستفيدين وإدماجهم بسوق العمل.
4. الابتكارات العلمية:
– شريكة في شركة “IMetavation” للتطوير والابتكار:
– تعمل على تصميم جهاز طبي جديد في مجال طب الأسنان (قيد التطوير).
5. التكريمات الدولية:
– حاصلة على الإقامة الذهبية في الإمارات (فئة المبدعين والكتاب)، تقديرًا لإسهاماتها الثقافية والمجتمعية.
6. رؤيتها ونهجها:
– الجمع بين العلم والأدب: ترى أن الشعر مدخل لترسيخ القيم، والطب وسيلة لخدمة الإنسان.
– التعليم سلاح للإعمار: تصميمها لمناهج تعليمية إبداعية (كالمنهاج الشعري) يُعزز الانتماء ويبني الأجيال.
– الشراكة المجتمعية: تؤكد أن نهضة سوريا تتطلب تعاون الأفراد مع الحكومات، وتذويب “الأنا” لصالح “الوطن”.
7. مقولات تُلخص فلسفتها:
– “الإنسان أغلى من الحجر.. نبنيه بالعلم قبل البنيان”.
– “الشعر رسالةُ أمة.. والطبيبُ رسالته إحياءُ الإنسان”.
– “أطفالنا في الغربة جسرنا لسوريا الغد.. فلنحفظ لهم لغتهم كي يحفظوا هويتنا”.
(( تابعنا على الفيسبوك – تابعنا على تلغرام – تابعنا على انستغرام – تابعنا على تويتر ))