خاص هوى الشام من محمد خالد الخضر| عند قراءة قصيدة الدكتور نبيل طعمة “حينما ألتقيك”، نجد أن النص يتطور عبر منهج فلسفي يُكرس الاستقلال الذاتي، ويضمن الاستمرارية عبر التحول الزمني. هذه المضامين تتجذّر في بنية شكلانية محكمة، حاملةً خصوصية النقاء المطلق والبعد عن الشهوات. يتماهى هذا الحب مع مفهوم الحب العذري المتمسك بالمعطيات الروحية، كما ظهر عند جميل بثينة وعنترة العبسي، خاصةً في مرجعيته الدينية القائمة على فكرة الحبيبة الوحيدة.
لقد تحوّل هذا الحب عند طعمة إلى قوة دافعة لتقوية الشخصية، ونما بالتوازي مع الإيمان بالله. إن التحولات في مكونات القصيدة تجعل مرجعيتها الأساسية هي العقيدة الإسلامية التي تدعو إلى الإخلاص والصدق. لا يمكن تفسير حركة النص وعمقه إلا بانعكاس التزام الشاعر بقناعاته الفكرية والثقافية والوجدانية، وبتمسّكه بما هو نبيل وجميل في النفس، على غرار ما فعله جميل العذري.
يربط طعمة بوضوح بين الواقع وعودة التكوين الفني، معارضاً أي خلل في مفهوم الحب ويربطه بالمتغيرات الإيجابية في الحياة. تتجسد في القصيدة إرادة الوعي الفاعل من خلال مجرى الإحساس الوجداني المتدفق، وصولاً إلى معنى كبير يتحول إلى نص يعكس أصداء ذاتية وثقافية وصوفية، متمسكاً بالصور والدلالات في إطار فلسفة حديثة.
يقول طعمة:
> حينما ألتقيكي تقاطر المطر
> كان ذلك من سنين.. حولتي وجهي الترابي العطش إلى لين.
> هكذا أنت.. شفاه يطل من بينها القمر..
> يعبر كل الغيوم.
يدرك الشاعر أهمية تطوير الحدث عبر اللهفة والتصوف ليبلغ أعمق ما في حياة الإنسان، ثم ينتقل بالحب العذري من الذات إلى مستوى الفعل والمقاومة الوطنية:
> حينما التقيكي انتبه الجميع
> أننا غدونا عاشقين
> وصديقي الأرض والأغصان.. والورود تناغمت
> وبدت في حالة يملؤها الصفاء
> إلى قوله:
> سامحيني يا حبيبتي فأنا انفعلت
> وأنا انفجرت.. أريد أن أكون بينهم أقاوم ومقاوم
> إلى قوله:
> أريد أن أكون أصابعي على الزناد تحمل البنادق
> كم تحبين غزة وقانا والمقاوم
> دعيني أحبك أكثر
> دعيني الآن أغادر.. أريد أن أغدو مقاوم
يبدو طعمة عاشقاً ملهوفاً، ولكنه يرتقي بالحب إلى ذروة المقاومة والنضال، ليصبح بطلاً ملحمياً يهدف إلى الحفاظ على نقاء الحب أولاً بارتباطه بالخالق، ثم بالدفاع عن النفس والأرض والكرامة والشرف التاريخي.
٢. الحب العذري والتعفف الروحي عند جميل بثينة
على الجانب الآخر، تختلف البنية الشكلية عند جميل بثينة، لكنها تتشابه مع طعمة في الانعكاسات العاطفية والارتباطات الوجدانية والدينية. يظهر هذا التعارض بين الفعل والمشاعر في قوله:
> يقولون جاهد يا جميل بغزوة
> وأي جهاد غيرهن أريد
> لكل حديث بينهن بشاشة
> وكل قتيل عندهن شهيد
ينأى جميل تماماً عن الرؤية المادية المرتبطة بالنزوات والتناقضات الأرضية، ليصل إلى سمو روحي يجعل روحه مرتبطة بالسماء. وقد خلق هذا النهج جدلية في التأثر والتأثير بين الواقع الاجتماعي والعمل الأدبي؛ حيث تحوّل الأدب إلى تعبير فلسفي وعاطفي وصوفي يعكس حالة ثقافية جمعية، مع الاحتفاظ بالأبعاد الفردية الخاصة للمبدع.
على الرغم من الخصوصية العالية التي ميزت نصوص جميل، يظل التعفف هو السمة الغالبة، كما في قوله:
> وإني لأرضى من بثينة بالذي
> لو أبصره الواشي لقرت بلابله
> بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
> وبالأمل المرجوي قد خاب آمله
> وبالنظرة العجلة وبالحول تنقضي
> أواخره لا نلتقي وأوائله
هذه الأبيات، حسب الروايات التاريخية، أقنعت أسرة بثينة بنقاء الحب وطهارته. إن شعر جميل يحقق حضوراً متميزاً لمنطلقات فكرية تجعل القارئ يركز على الوجدان الشعري والحالة العشقية الكبيرة المقترنة بالخوف من الخالق، بعيداً عن المكونات المادية. فلا يمكن عزل الشعرية العذرية عن صفتها الوجدانية التي لا تغضب الخالق أو تبعد الإنسان عن كينونته الأخلاقية.
يقول جميل في إظهار صدقه الوجداني والالتزام الديني:
> ألا قد أرى والله أن رب عبرة
> إذا الدار شطت بيننا ستزيد
> وقلت لها بيني وبينك فعلاً
> من الله ميثاق له وعهود
ويصل إلى ذروة الصدق الروحاني بتضمين هذا الحب في علاقته بالدين:
> أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها
> لي الويل من ما يكتب الملكان
إن الواقع الإسلامي، برغم الخصوصية العالية لهذه الأبيات، جعل الذات الفردية تسعى لخدمة التاريخ والإنسان حتى في وجود الألم والمأساوية.
٣. خلاصة المقارنة ونشأة الحب العذري
تختلف حالة جميل بثينة النفسية والوجدانية عن شعراء عصره وسابقيه، لخروجه إلى الطابع العذري الذي يمثل نقطة تباين مع الشعر القديم (كشعر امرئ القيس مثلاً). وهذا يثبت عكس ما ذهب إليه بعض النقاد؛ فالشعر العاطفي لا ينتج إلا عن انعكاس وجداني عميق بكل أنواعه وحالات مكوناته.
كما يدرك القارئ تماماً أن ما قاله جميل عن بداية حبه لبثينة دليل على نقاء المحبة وسلامتها من أي حالة مشوهة، وهي بداية غير تقليدية تكرس المفهوم العذري للحب:
> وأول ما قاد المودة بيننا
> بوادي بغيض يا بثين سباب
سياق البيت: تروي المصادر الأدبية أن اللقاء الأول بين جميل وبثينة حدث عند وادي بغيض عندما كانا يسقيان إبلهما. فنفرت إبل جميل، فقام جميل بسب بثينة، فبادلته السب، وكان هذا الرد الذكي والحدة في شخصيتها هو السبب الغريب الذي أثار إعجابه وبداية حبه، مما أرسى أساس هذا الحب العذري المتميز، حيث يقول جميل في تبيان القصة: “وقلنا لها قولاً فجاءت بمثلهِ / لكل كلامٍ يا بثينَ جوابُ


