هوى الشام | من بين عشرات الشعراء العرب الذين كتبوا للصغار وملأت قصائدهم صفحات كتبهم المدرسية رسخت في ذاكرتهم نصوص مبدع واحد تناقلتها الأجيال إنه الشاعر الكبير سليمان العيسى.

ولأن الأطفال هم دائماً أصدق من يتحدث بلسان الشعوب فإن مهجهم البريئة وعواطفهم العفوية توجت العيسى شاعراً للطفولة أما الكبار فاعتبره بعضهم (شاعر العرب الأكبر) كما وصفه بذلك الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح وقال عنه صديقه الباحث الدكتور علي القيم “كتب أغلى الكلمات التي أحبها واعتصر المحال وكتب للنضال وللواحات والرمال”.

وبالعودة إلى سيرة حياة الراحل العيسى نجد أنه واحد من المبدعين السوريين الكثيرين الذين أبصروا النور في لواء إسكندرون السليب كحيدر يازجي ووليد إخلاصي وأدهم وصدقي إسماعيل ففي قرية النعيرية بحارة اسمها بساتين العاصي ولد شاعرنا سنة 1921 والتي سيصفها العيسى لاحقاً وهو على مشارف التسعين عاماً يودع الدنيا في كتابه الأخير “النعيرية قريتي” بحواكيرها وعصافيرها وزقزقتها وبيته القرميدي واشجار التين والتوت التي كتب تحت ظلها قصائده الأولى.

كان والد شاعرنا شيخاً ورجل دين اسمه أحمد العيسى تلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة في كتاب القرية فحصل على تكوين تعليمي متميز وفق الثقافة التقليدية السائدة فحفظ القرآن الكريم وديوان المتنبي وعشرات من عيون الشعر العربي ثم أشركه معه في التعليم بالكتاب وبسبب هذه الرعاية التي رفدت نبوغ الفتى نظم الشعر وهو في العاشرة.

وكانت أسرة العيسى تعيش في حال أقرب إلى الفقر إذ ليس لها من الموارد إلا ما يناله الأب من أجر الكتاب وبعض ما تغله قطعة أرض لتخلق في نفس الطفل تجذراً بالأرض وبالكادحين كما سيكتب ذلك لاحقاً في نشيد “يا شباب العرب هيا”.

وعندما قرر العيسى الأب إرسال ابنه ليتعلم في المدرسة الابتدائية بمدينة أنطاكية اختبره مدير المدرسة ثم وضعه في الصف الرابع مباشرة.

وشاءت الأقدار أن يصدم العيسى بما يواجه الأمة من مؤامرات ومخاطر عندما سعى الاحتلال الفرنسي لأن يسلخ لواء اسكندرون عن جسم الوطن الأم ويعطيه للأتراك فانخرط في مظاهرات رافضة وألقى قصائد فيها لفتت إليه الانتباه وحين احتل الجيش التركي المنطقة لم يجد بدا من النزوح تاركاً مدارج طفولته بعين دامعة.

وتابع العيسى دراسته الثانوية في حماة واللاذقية ودمشق وشارك في النضال الوطني ضد الاحتلال وسجن إثرها أكثر من مرة حيث عبر عن غضبه على المحتل وعن تطلعه للاستقلال في قصائد عديدة كتبها حينها.

وخلال دراسته في ثانوية التجهيز بدمشق جودت الهاشمي حالياً جذبته أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي على يد استاذه زكي الأرسوزي لما وجد لديه من مبادئ تتقاطع مع فكره في مناهضة الاستعمار والوقوف مع الكادحين والدعوة لوحدة العرب ليبقى حاملا لهذه الأفكار طيلة حياته بل إنه ساهم بنشر فكر البعث في العراق إبان دراسته في دار المعلمين العليا ببغداد والتي تعرف فيها على طلاب سيصبحون لاحقا أدباء كبار من عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ولميعة عباس.

ولدى عودته من العراق عام 1947 استقر العيسى في مدينة حلب ليعمل في سلك التدريس وليخوض تجربة صحفية فريدة مع صديقه الأديب الراحل صدقي إسماعيل عندما أسسا جريدة فكاهية ناقدة حملت عنوان الكلب بمشاركة مجموعة من الكتاب المبدعين من نجاة قصاب حسن وعبد السلام العجيلي ومنصور الرحباني.

وفي عام 1952 أصدر العيسى ديوانه الأول (الفجر) وبث من خلاله لواعج ذاتية وغزلية وحضوراً أقل للقضايا القومية اشتكى خلالها تواطؤ أنظمة عربية لضياع فلسطين سنة 1948.

ولكن الهم القومي مع الإبداعي سيتماهى أكثر عند العيسى وصار أكثر انخراطاً في قضايا الأمة ما جعل الأديب والدبلوماسي الجزائري عثمان سعدي في كتابه (الثورة الجزائرية في الشعر السوري) يرى أن العيسى لعب دوراً بالغ الأثر في حشد الدعم والتأييد لثورة الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي.

وما بين عام 1952 و1960 أصدر العيسى 6 دواوين شعرية نذكر منها قصائد عربية وصلاة لأرض الثورة الذي خص به الثورة الجزائرية وثائر من غفار فغدا الشعر عنده رسالة قومية موجهة إلى الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير وكان شعره النضالي شاملاً لهموم الأمة العربية من المحيط إلى الخليج ولأجل ذلك جاءت قصائده تلهب النفوس وتأثر بها جيل كامل من الشباب العربي على امتداد الأقطار.

غير أن حادثة الانفصال التي اعترت دولة الوحدة بين سورية ومصر ثم نكسة حزيران سنة 1967 أخذت تجربة العيسى الشعرية لأمداء أخرى مختلفة فظهر له ديوانان هما أمواج بلا شاطئ و أزهار للضياع كانت قصائدهما بمثابة ردة فعل نفسية مسحت شعره في تلك المرحلة بالمرارة والحزن الهادئ وأخمدت ثورة اندفاعه فكانت اشبه بمراجعة للماضي ووقفة على أسباب النكسات.

العيسى الذي تقاعد من عمله كموجه للغة العربية في وزارة التربية عام 1967 وأسهم بتأسيس اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1969 انتقل للعيش في اليمن سنة 1980 بحكم عمل زوجته الأديبة الراحلة ملكة أبيض كأستاذة في جامعة صنعاء وهناك ألف 7 دواوين شعرية خلال 15 عاماً وربطته علاقات قوية مع الوسط الثقافي اليمني ولمس احتفاء أدبياً وشعبياً به.

وعندما كان العيسى يكتب لشهداء حرب تشرين التحريرية قصيدته الخالدون وفيها يقول
(عند الشهيد تلاقى الله والبشر) كان يبدأ أكبر انعطافة في حياته فوجد أن مواجهة الأمة للتحديات لا تكون بالمباشرة والخطابية بل ببناء الإنسان من داخله وتربية الأجيال الجديدة على الشيم الأصيلة واشراكهم في التفكير والتدبير لصنع امنياتهم فأخذ نتاجه الشعري للكبار يقل ويستعيض عنه بكتابة اناشيد ومسرحيات شعرية للصغار الذي صار يبحث عن غده في عيونهم.

ولم تكن كتابة العيسى عن الأطفال اعتباطاً بل وفق نظرية وضعها هو خلاصتها أن شاعر الأطفال يجب ان يقدم لهم قصيدة تحافظ على مستواها الفني وتخدم أغراض التربية الهادفة والسليمة وحرص أن تتوافر في شعره الصورة الشعرية الجميلة واللفظة الرشيقة الموحية الخفيفة والفكرة النبيلة الخيرة والوزن الموسيقي الخفيف والرشيق والمزج بين عالمين هما الواقع الحسي والحلم والخيال محاولا تبسيط المفاهيم وتقريبها بالصور الحسية.

ولقد وجد شاعر وناقد إماراتي هو سيف محمد المري أن ما قدمه العيسى في مجال الكتابة للطفل هو أجمل تراث يقدمه لبناء الأمة العربية ويثري مكتبتها بباب هي أحوج ما تكون إليه.

وبعد أن عاد العيسى إلى دمشق وهو في نهاية السبعينات من العمر أخذ يقضي وقته بين المنزل وعند بعض الاصدقاء وفي اجتماعات مجمع اللغة العربية الذي أصبح عضوا فيه وظل رغم كل شيء يتمسك بالأمل رغم حال الأمة الصعب الذي كان يصفه بالطارئ فقال في آخر حديث صحفي أجري معه “لا تيأسوا أبداً حاولوا أن تنهضوا بعد كل عثار وأن تفتحوا نافذة حين يغلق أماكم باب”.

وفي التاسع من آب سنة 2013 توقفت حروف العيسى للمرة الأخيرة وصارت قصائده بحكم التاريخ ولكنه حي وباق على السنة الأطفال وعند كل مؤمن بفجر الأمة الطالع.

إيمان العيسى بأمته تجلى في شخصه وأدبه لأجل ذلك وصفه الباحث الجزائري بو عيسى مسعود بأنه ظاهرة قومية شعورية شعرية وقومي وعروبي مخلص ومناضل صادق.

للعيسى أكثر من سبعين كتابا تأليفا وتعريبا ما بين الشعر والقصة والمسرح والدراسة للكبار والصغار وحاز العديد من الجوائز أهمها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وجائزة لوتس للشعر من اتحاد كتاب آسيا وافريقيا وجائزة المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (الكسو) لأدب الأطفال وجائزة الابداع الشعري لمؤسسة البابطين.

سانا – سامر الشغري

SHARE