هوى الشام | كان سعد الله ونوس في السابعة من عمره عندما تناهى إلى أسماعه أن شابين خرجا من قريته حصين البحر ليتطوعا للدفاع عن فلسطين في حرب 1948 فعاش مع أهل القرية مشاعر الخوف والترقب على عدم عودة هذين الشابين وعلى ضياع فلسطين.

هذه الحكاية التي قصها الأديب المسرحي الراحل ونوس في الفيلم التسجيلي الذي ظهر قبيل وفاته بأشهر وأخرجه الراحل عمر أميرلاي تعكس تماهي هذا المبدع مع قضايانا الكبرى منذ سنين عمره الأولى فكان كما قال عنه المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي “مدافع حقيقي عن هموم الناس وعن القضايا الاجتماعية والانسانية والوطنية وكل ما يمس مقدساتنا وحياتنا”.
ولد ونوس في الـ 27 من آذار عام 1941 في قريته على الساحل الجنوبي لطرطوس وكان منذ صغره شغوفاً بقراءة كل ما يقع تحت يده من مجلات وكتب قديمة فقرأ الكثير لجبران خليل جبران وطه حسين وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وغيرهم.

شغف ونوس بالمطالعة انتقل بدوره إلى الدراسة فكان من المتفوقين خلال دراسته في مدرسة القرية الوحيدة آنذاك وثانوية بنين طرطوس ما جعله يحصل على منحة من وزارة التربية لدراسة الصحافة في جامعة القاهرة عام 1959 خلال فترة الوحدة مع مصر.

وتشاء الأقدار أن يقع الانفصال الذي فصم عرى الوحدة السورية المصرية وأديبنا مقيم في القاهرة للدراسة فترك هذا الحدث أثراً كبيراً في حياته كشاب مقبل على الحياة مؤمن بالعروبة وبدور هذه الأمة الحضاري.

وعندما عاد ونوس إلى سورية بعد نيله الإجازة الجامعية عين في وزارة الثقافة ولمع اسمه كما يبين المخرج الدكتور تامر العربيد بعد أن كتب مقالات في مجلة المعرفة حول المسرح في مصر وتجربة توفيق الحكيم.

في عام 1963 نشرت له مجلة الآداب البيروتية مسرحية (ميدوزا تحدق في الحياة) والتي تلاها نصوص عدة كتبها في الفترة التي سبقت نكسة حزيران وبلغ عددها ثماني مسرحيات منها (فصد الدم) و(مأساة بائع الدبس الفقير) صدرت ضمن مجموعة عن وزارة الثقافة لعام 1965 بعنوان (حكايا جوقة التمثيل).

اتسمت مؤلفات ونوس في تلك الفترة برأي الفنان المسرحي الراحل عبد الرحمن أبو القاسم بطغيان إثر الثقافة والمسرح الغربيين ومعالجة القضايا بالتجريد والترميز المتعمد وعمومية المواقف.

في عام 1966 سافر ونوس إلى باريس لدراسة المسرح بموجب منحة دراسية وهنالك عكف يطلع على الحراك المسرحي الفرنسي ولكن المقام هنالك لم يطل به إذ سرعان ما عاد إلى سورية إثر نكسة حزيران التي تركت في نفسه أثراً مؤلماً رافقه طوال حياته فكتب نصاً أثار الكثير من الضجة وهو (حفلة سمر من أجل 5 حزيران).

كان هذا النص بداية مشروع ونوس في كسر الحاجز بين المسرح والجمهور وهدم الجدار الرابع بين المتلقي والعرض حتى يعطي للعرض ككل قيمته الاجتماعية وكان ونوس ساخراً في مسرحيته إلى أبعد حد إذ كتب تحت عنوان المسرحية عبارة (يشترك فيها الجمهور والتاريخ والرسميون وممثلون محترفون).

آمن ونوس بشدة بضرورة التزام المسرحي بقضايا مسرحه لأنه كما ذكرت الباحثة الجزائرية (الحادة عطاوة) أدرك بوعيه الحسي كفنان الدور التنويري والتثقيفي للمسرح فجعله منبراً لطرح قضايا كبرى من الصراع مع العدو الصهيوني والنهضة الثقافية واستلهام التراث ونشر الحرية ومواجهة الاستبداد.

كان ونوس من المساهمين بإطلاق مهرجان دمشق المسرحي وكتب لأجل دورته الأولى مسرحيته (الفيل يا ملك الزمان) التي أخرجها الراحل علاء الدين كوكش سنة 1969.

وفي العام ذاته عندما كلف ونوس بإطلاق مجلة أسامة للأطفال وبعد أن عمل على وضع منهج عمل وخطة لإدارتها واستقطب لها أدباء وكتاباً كباراً انصرف عنها لمشروعه المسرحي وشرع بكتابة نصوص حملت اسمه عالياً في الآفاق وقدمت على خشبات سورية وعربية ويكفي أن نقول إن المسرح المصري العريق قدم له أكثر من خمسة عشر عملاً ولمرات عديدة.

وفي عقد السبعينيات واصل ونوس طرحه للقضايا الكبرى ولعلاقة المثقف مع محيطه فكتب (مغامرة رأس المملوك جابر) و(الملك هو الملك) و(رحلة حنظلة) و(سهرة مع أبي خليل القباني) والأخيرة التي أخرجها الفنان القدير أسعد فضة كانت إدانة حقيقية وجريئة لدور مؤسسات اجتماعية بعينها في وأد مشروع التنوير.

لم يكن إبداع ونوس المسرحي قاصراً على التأليف فلقد أطلق مشروع المسرح التجريبي بالمشاركة مع الفنان الراحل فواز الساجر وترجم نصوصاً مسرحية عالمية شهيرة إلى العربية من (يوميات مجنون) للروسي غوغول و(العائلة توت) للهنغاري ستيفان أوكربني وساهم بتأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1977 ودرس فيه وأسس مجلة الحياة المسرحية سنة 1978.

مثل اجتياح كيان الاحتلال الصهيوني لبيروت سنة 1982 صدمة كبرى بالنسبة لونوس جعلته يمتنع عن الكتابة قرابة عشرة أعوام فلقد كان هذا الكيان على حد تعبيره قد “سرق السنوات الجميلة من عمره وأفسد على إنسان عاش خمسين عاماً الكثير من الفرح”.

إصابة ونوس بمرض سرطان البلعوم سنة 1992 كان لها مفعول عكسي على مسيرته إذ أعادته إلى الكتابة وخالف توقعات الأطباء عندما توقعوا له بأن لن يعيش أكثر من 6 أشهر.

وخلال الأعوام الخمسة الأخيرة من حياة ونوس التي قضاها بين مراكز صحية ومستشفيات في دمشق وباريس كتب نصوصه الأكثر جدلاً والأهم برأي بعض النقاد مثل (منمنمات تاريخية) و(الليالي المخمورة) و(طقوس الإشارات والتحولات) التي عرضت في سورية ولبنان ومصر.

ظل ونوس مواجها حتى النهاية ولم يحد عن قناعاته وثوابته ففي كلمة يوم المسرح العالمي التي كتبها قبل وفاته بعام بناء على طلب من المعهد الدولي للمسرح رفض طروحات الغرب حول صراع الحضارات ونهاية التاريخ بسقوط الحكم الشيوعي فقال كلمته المشهورة “إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

وفي الـ 15 من أيار سنة 1997 توقف قلم ونوس عن الكتابة هذه المرة نهائياً واستسلمت روحه التي أعياها السعي للنهوض بالأمة وأهلها وتركت جسداً أسقمته الأوجاع والأدوية الكيماوية.

وللحديث عن تجربة ونوس سنجد أن هذا الأديب جذب إليه أقلام النقاد والمسرحيين العرب أكثر من أي كاتب مسرحي آخر فهو (صاحب مسرح سياسي ينمي وعي الجمهور ويحرضه على الفعل) كما وصفه بذلك الناقد المصري رضا عطية وهو (المسرحي الوحيد الذي كان له مشروع مسرحي) كما رأى المسرحي العراقي قيس الزبيدي ووصفته المخرجة اللبنانية نضال الأشقر بأنه كان إنساناً ثائراً على كل شيء حمل قضية وطنه وشعبه.

بقي أن نشير إلى أن لونوس 26 نصاً مسرحياً معظمها عرض على الخشبات كما حاز جوائز من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي وقرطاج ونال جائزة سلطان العويس الثقافية عن المسرح في دورتها الأولى.

سانا – سامر الشغري
SHARE