هوى الشام| لم يعرف تاريخ الغناء العربي المعاصر مطربا تربع على عرش الغناء العربي التراثي غير صباح فخري ولم يعرف هذا التراث من حافظ عليه وأولاه عنايته واهتمامه وسار به بين الناس سوى صباح فخري.

هذه الكلمات التي ابتدأ بها المؤرخ الموسيقي الراحل صميم الشريف توثيقه لمسيرة الفنان الكبير فخري في كتابه (الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ) هي خير استهلال لمسيرة أحد عظماء الطرب العربي بحنجرته الذهبية وصوته الماسي وأدائه المتقن الخارق لجميع أنواع التراث وحتى الأغاني المعاصرة التي غدت جزءا منه لشعبيتها وخلودها.

ولد صباح فخري واسمه الحقيقي صباح أبو قوس في مدينة حلب يوم الثاني من أيار عام 1933 وكان أبوه رجل دين يعلم القرآن الكريم وتجويده وصاحب طرق صوفية.. احتفى بابنه الذي أتقن قراءة القرآن في السادسة من العمر ليعلمه الإنشاد الديني في حلقات الذكر والزوايا الصوفية عندما بلغ العاشرة اكتسب من أصدقاء أبيه مثل عمر البطش ومصطفى الطراب وصبحي الحرير وبكري الكردي كل شيء من علوم النغمات والأوزان.

وفي سن الثانية عشرة غنى صباح أول موشح خاص فيه وهو “يا هلالا غاب عني واحتجب” ثم اتصل بالشيخ علي الدرويش وبولديه إبراهيم ونديم اللذين لحنا له بعض الأغنيات وعلماه عزف العود ثم رافق عازف الكمان سامي الشوا في حفلاته في حلب وغيرها من المدن السورية وهنالك تعرف عليه فخري البارودي الذي بهره غناءه فتبناه فنيا وجعله يلتحق بالمعهد الموسيقي الشرقي.

وفي المعهد درس الفنان صباح على يد عمر البطش وعزيز غنام ومجدي العقيلي وتعلم منهم الإيقاعات والموشحات ورقص السماح وفن غناء القصيدة الأصولي والأدوار والنظريات الموسيقية والإلقاء الغنائي بواسطة الصولفيج والمقامات وأساليب الانتقال فيما بينها ليتلقاه الملحنون فور تخرجه ويقدموا له أغاني صافح الجمهور من خلالها وعرفهم على مطرب ناشئ لكنه عظيم اسمه صباح فخري بعد أن تكنى باسم متبناه الذي حباه بعطفه ورعايته.

وعندما عاد صباح إلى حلب درس في المعهد العربي الإسلامي الذي حصل من خلاله على شهادتي المرحلة الإعدادية والثانوية.. فكر باعتزال الفن والتفرغ للعمل التجاري ولكن حبه للموسيقا وانتشار أغانيه وعالم النجومية دفعه ليعود إلى الغناء فكانت بدايته الجديدة عبر شاشة التلفزيون العربي السوري من خلال برنامج الموسيقا العربية سنة 1961 الذي كان يعده ويخرجه الراحل جميل ولاية فغنى دور “أصل الغرام نظرة” لمحمد عثمان وقصيدة “قل للمليحة” من ألحانه.

دفع هذا النجاح صباح إلى تقديم وصلات غنائية من عيون التراث فقدم يا مال الشام ويا طيرة طيري لأبي خليل القباني معيدا لهما بريقهما والقهما ثم انبرى لتراث الشيخ عبد الرحيم المسلوب وسيد درويش ومحمد عثمان وعمر البطش وزكريا أحمد وأمين الجندي يغرف منهم دون ارتواء ليطفئ به ظمأ الجماهير التي تميل إلى الغناء التراثي.

وبعد أن شارك صباح تمثيلا وغناء في فيلم الصعاليك مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي وفي مسلسل الوادي الكبير أمام الراحلة وردة الجزائرية سعت إليه النجومية فانهالت عليه الدعوات من جميع الأقطار العربية ثم غنى لأبناء المهجر في استراليا والأمريكتين حيث منحته مدينتا ميامي وديترويت مفتاحهما تقديرا منهما لفنه وأقيم له حفل تكريمي في قاعة روس بمدينة لوس انجلوس وكرمته كلية الفنون بجامعة كاليفورنيا.

وفي أوروبا غنى صباح في قاعة نوبل للسلام باستوكهولم وفي قصر المؤتمرات بمدينة باريس وقاعة بتهوفن في مدينة بون وافتتح مهرجان الموسيقا الشرقية في مدينة نانتير الفرنسية وكذلك دعي في انكلترا للغناء وإلقاء محاضرات عن الموسيقا والآلات الشرقية.

وشغل صباح فخري في مسيرته الفنية مناصب عدة فانتخب نقيبا للفنانين ونائبا لرئيس اتحاد الفنانين العرب ومديرا لمهرجان الأغنية السورية وضرب الرقم القياسي في الغناء عندما غنى في مدينة كاركاس بفنزويلا مدة 10 ساعات دون انقطاع سنة 1968 وذكرت اسمه موسوعة مايكروسوفت انكارنا كأحد رموز الغناء العربي والشرقي.

أما الأوسمة والتكريمات التي نالها صباح فهي كثيرة ومن أعلى المستويات بدءا من وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة ووسام تونس الثقافي ووسام التكريم من سلطنة عمان وجائزة الغناء العربي من الإمارات وجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية والجائزة التقديرية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وأسس محبوه في مصر جمعية فنية باسمه سنة 1997.

حصيلة صباح فخري الفنية وثق لها كتاب للباحث التونسي إلياس بودن مبينا أنها تحتوي 347 عملا غنائيا منها 110 من الطرب القديم التي لا يعرف لها ملحن و66 عملا لحنها وغناها صباح وتشمل موالات وقصائد وموشحات وطقاطيق كما غنى من ألحان غيره نحو 87 موشحا لملحنين سوريين ومصريين وروي عنه أنه يحفظ أربع سفن “دفاتر” حيث تحتوي كل سفينة على ألف موشح.

وتختزل مسيرة صباح تراثا ضاربا في العراقة يحمل من روح الأندلس وإبداع أبناء حلب وتماهي إنسان مع هذا الإرث وقدرته ليس على صونه والحفاظ عليه فحسب بل على تطويره وتقديمه بشكل يستهوي جمهور اليوم والغد.

سانا – سامر الشغري
SHARE