هوى الشام من علي عبد الوهاب الجاسم| كتب الشاعر محمد خالد الخضر قصيدته “الذئب يقشر ليلى” في عام 2014، في ذروة مرحلة مظلمة عاشها السوريون، حيث عبّر بشجاعة نادرة وصدق حقيقي عن وجع شعبٍ اختنق صوته وسط الدخان، ولم يبدّل موقفه رغم تبدل الأزمنة والظروف. القصيدة جاءت كتجلٍّ شعري صادق للغضب والخذلان، وصرخة في وجه العتمة، دون أن تبحث عن مديح أو ترضية.
جمالية الصورة والرمز في سياق النقد والوجع
تتوهج القصيدة بلغتها المكثفة وصورها الشعرية الطازجة التي تكسر المألوف، وتخلق تأثيرًا بصريًا وعاطفيًا قويًا، تصبّ كلها في بوتقة النقد:
“الذئب يقشر ليلى”: استعارة صادمة ومبتكرة، تُحوّل “ليلى” (التي ترمز هنا بوضوح إلى سوريا أو كرامة شعبها) إلى “برتقالة” تقشرها “الذئاب”. هذه الصورة لا تعبّر فقط عن الاغتصاب والنهب، بل تشير إلى تجريد الذات الوطنية، وتشويه الروح، وتحويل الأرض إلى غنيمة.
“الصبح أحمرُ يا فرزدقُ”: استدعاء للتاريخ (الفرزدق)، وللدم الذي صبغ فجر الحلم. الدم هنا ليس فقط دمًا مادّيًا، بل دم الحقيقة المسفوكة، دم البراءة، دم الصرخة المخنوقة.
“حمر النواجذ مثل مزمارِ القيامةِ”: صورة تقبض على جوهر الرعب. ضحكات العنف المدجّج كأنها لحن الخراب. لا تأتي من بشر، بل من وحوش تتقن القتل وتتلذذ به.
قوة النقد وتعدد الأهداف في وجه الغياب والخيانة
تكمن قوة القصيدة في جرأتها على مواجهة الواقع المرير الذي فرضه الاستبداد، ووضوح أهدافها الرمزية:
1. فضح التخاذل الداخلي والخارجي: في “عربٌ على روثِ الطريقِ.. فمن سيُفهمني الحكايه”، قمة الحسرة على حال أمة ضلّت طريقها، وتخلّى الأقربون عنها، وتركوا الشعب يتجرع مرارته وحيدًا.
2. نقد القيادات المضللة أو الغائبة: “مجتمع بلا رأسٍ.. أو تكونُ رؤوسنا مشبوهة” توحي بفساد أو خواء في القيادات، سواء كانت تابعة أو طامعة، فتركت البلاد في مهب الريح، مستباحة للذئاب.
3. غربة الذات في وطنه المنكوب: “وحزننا منفى كبيرْ.. من كان غيري يا دمشقُ على مواجعه أسيرْ”، وجع الإنسان في وطنٍ صار قاسيًا على أبنائه. المشهد هنا لا يصف المكان فقط، بل يصف انسلاخ الإنسان عن ذاته وذكرياته.
4. التحذير من الوهم والمساومة: حين يضحك العدو ولا يخشى النهاية، تصير الضحكة سلاحًا. القصيدة تنبّه من التساهل أمام الذئاب، ومن تكرار الرضوخ لأحلام زائفة باسم “الاستقرار”، بينما كل شيء يُنهب ويُقشّر.
5. رثاء الأحلام التي تاهت: “ليلى باعت ثوبها” صورة حارقة. الثوب هنا رمز لما كان نقيًا ومقدسًا: الكرامة، الثورة، النقاء. بيعه يعني الخذلان، أو التنازل تحت وطأة الجوع والخوف. و”النعاج” التي أخذها الذئب والشعب يرقص، رمز للتخدير الجماعي، للتنازل بلا مقاومة، للقبول بما لا يُقبل.
البناء الفني والتأثير الباقي
اعتمد الشاعر البناء الحر، غير المقيّد بقافية أو شكل كلاسيكي، ما أعطى النص تدفقًا صادقًا يليق بفوضى الواقع وتشظّي الأحلام. ورغم صرخته العالية، بقي النص وفياً للشعر، للغة، للصورة، دون أن يتورط في الشعارات.
في الختام:
“الذئب يقشر ليلى” ليست قصيدة عابرة، بل وثيقة شعرية تنبض بمرارة المرحلة وتختزن غضب الإنسان السوري الذي لا يجد من ينصفه. إنها مرآة موجعة، وصوتُ من لم يمتلك سلاحًا إلا الكلمة، فصارت سيفاً.
الذئب يقشر ليلى
شعر : محمد خالد الخضر
متأملا
في آخر الضحكات ..
تنقلني إلى بر الأمانْ .
الصبح أحمرُ
يا فرزدق ُ
والذئابٌ تكاثرت ..
في الكرمِ ..
ليلى غيرت أحلامها ..
الذئب قشرها ..
وصارت برتقالهْ .
عمري تقاسمه الشقاءُ
فكيف أختتمُ الرسالة .
أتذكرُ الأيامَ ..
تورقُ في حلبْ .
والزيزفون يدلني ..
كيف الطريقُ ..
يروح من شرق المدينةِ ..
حيث يغتسل الغربْ .
هذا الفراتُ بلا انتماءٍ ..
والبحارُ تشده .
الآن تختصرُ الحدودَ ..
وحزننا منفى كبيرْ .
من كان غيري يا دمشقُ
على مواجعه أسيرْ.
حمرُ النواجذ ..
مثلُ مزمارِ القيامةِ..
كي نصفقَ للنهايهْ
عربٌ على روثِ الطريقِ..
فمن سيُفهمني الحكايهْ .
يأتون بالأحزابِ ً..
مثلَ ضبابِ أمريكا ..
ونجلسُ في مقاهي الشرقِ
مجتمعٌ بلا رأسٍ ..
أو تكونُ رؤوسنا مشبوهة ..
أفعى دلاص جائعهْ .
إلا أنا ..
أدري بسوءِ الواقعة.
قفزت على الرمانِ ..
تمعنُ بالفحيحْ .
والكرمُ يا وطني جريحْ .
الآن أصبحنا بلا جدرانَ كي ترضى الذئابْ .
لا تمتقع أبداً ..
يضاحكنا العدو ..
ولا يخافُ من النهايةِ ..
نحن نجعلهُ كبيراً ..
وهو يملؤنا اغترابْ .
هو قادمٌ .
حتى انتهاء الحلمِ في عوراتهِ
أخذ النعاجَ جميعها ..
والقوم تدبك ..
في الليالي الحمرِ ..
تحلم بالقضاءِ على الحدودِ ..
كما يشاء خيالها
فتعضها من حلمها
تلك الكلابْ .
لا شيء أفظعُ من قضيتنا ..
هنا ..
في أكبرِ الآلام ..
ليلى باعت ثوبها ..
وهنا على مرمى الدموعِ ..
تصولُ قطعانُ الذئابْ .