الرئيسيةClipsمحروس الشغري: ملك الموال السبعاوي وبصمة إبداع لا تمحوها الذاكرة

محروس الشغري: ملك الموال السبعاوي وبصمة إبداع لا تمحوها الذاكرة

خاص هوى الشام| في عالم الأغنية الشعبية الدمشقية، وُلد صوتٌ كان أكثر من مجرد صوت، كان روحا تنبض بمشاعر الناس، وحكاية تنسجها أزقة دوما بحبر القلب. محروس الشغري، “أبو عدنان”، هو ذلك النجم الذي رحل عنا لكنه ترك أثراً لا يُنسى في ذاكرة محبيه، بصوته الذي احتضن الغوطة وحنينه، بشخصيته الفريدة التي تركت فراغاً لا يُملأ داخل وجدان كل من عشق الفن الشعبي الدمشقي والفلكلور السوري.

نشأة محروس الشغري:
وُلد محروس عام 1959 في دوما، المدينة التي تعتبر القلب النابض لغوطة دمشق. هناك، في أحضان الطبيعة الحضرية البسيطة، بدأت رحلة هذا الفنان الذي انطلق من بسطات الحياة اليومية لأجد نفسه في قلوب الناس عبر صوته.

رحلته مع عالم الغناء والإنشاد بدأت عندما كان في السابعة من العمر، حيث شارك في أداء الأناشيد الدينية مع الأستاذ تيسير مفيد الساعاتي.

وفي عام 1972 امتلك محروس الشجاعة ليشارك في مسابقة البرنامج التلفزيوني نجوم الغد والذي كان يُنقل عبر الإذاعة؛ حيث قدم أغنية للمطرب المصري محمد طه، ونجح معهم من الفنانين معين الحامد وهدى درويش و سهام ابراهيم، إلا أن والده – بسبب الظروف المادية وصعوبة التنقل بين الريف والمدينة- رفضَ استمراره في هذا البرنامج.

المجال الأول الذي تميز به محروس كان الأغاني الشعبية المحببة لدى الكثيرين، حيث قدم في السبعينات والثمانينات عددا من الأغاني الشعبية كأغنية طفران مفلس طفران”، ثمّ أدى أغنية وديع الصافي ياغايبين بهواكم قلبي دايب، وأغنية بدوما صحينا بكير على صوت الشحارير، وأغنية ليش عم تعمل هيك بإقاعها الحار وكلماتها العاتبة العذبة.

وقدم العديد من الوصلات الغنائية والقدود الحلبية كما أسس فرقة أسماها الربيع.

عرف محروس بلقب ملك الموال السبعاوي، ويسمى أيضا بالموال البغدادي لأن أصله من بغداد، وفي سورية عُرف بالموال السبعاوي، وتعتبر حلب أول من أبدعت في نظم هذا الموال ثمّ انتقل إلى دمشق.

سمّي سبعاوي لأنه يتألف من سبعة أسطر، حيث تنتهي الأسطر الثلاثة الأولى بقافية واحدة والثلاثة الأخرى بقافية واحدة، أما السطر الأخير ينتهي بقافية الأسطر الأولى مع تحقيق الجناس في نهايات الأسطر؛ وكان قدم الكثير منها؛ وفي كل مناسبة كان يُطلب منه هذا الموال؛ ومرة قدم موالاً سبعاوياً عن سوريا قال فيه:
أحسِن بظنّك يا صاحبي ونيتك على الدوم صفيها..
وصون لأرضك وعرضك ولاقي جموع الخير وصفيها..
وراجع لتاريخ العرب كم شاعر غنّى لسوريا ووصف فيها..
سوريا الكرامة وأهلها بالكرم سادة..
وترابها تراب عز وحجارها أجمل وسادة..
سوريا سقتنا الكرامة بكاسات حلوة مرة وسادة..
سوريا أُمنا والأم ربّك ألف مرة وصى فيها..”
ولم يقتصر إبداع محروس في الموال السبعاوي، بل – كان للعتابا نصيب كبير من فنّه ومنها موال قال فيه:
ضناني فراق خِلاني وبُعدهم..
سهير الليل ونجومه بعدّهم..
حرام الثغر يضحك بَعدهم..
طول ما هم عني غياب..

كان للراحل مشاركات غنائية في بعض المسلسلات التلفزيونية، وهي بكرة أحلى” ومشاريع_صغيرة” وأولاد السلطان”.

تخطّت شهرة محروس حدود مدينة دوما؛ فأطرب بصوته العذب مناطق كثيرة منها مناطق الغوطة الشرقية ومدينة حماة. وشارك مع عدد من المنشدين مثل الأخوة أبو شعر ونور الدين خورشيد، وأجاد الإنشاد الديني ومواويل مدح النبي (ص) في الموالد.

سيرة الأغاني وتاريخ الطرب:

تتجلى عبقرية محروس في ألبوماته الأشهر مزرعة السليك و”حفلة عربين”، واللذين احتويا أعمالاً لا تنسى خلدها التاريخ الشعبي، مثل موال “أول ما كتب القلم” الذي يفيض صوفية وروحانية، وموال يا من غرامك الذي يضج بالشكوى من الهجر، وموال دولاب سعدي وأغنية “دلوني دلوني” التي تنادي الحبيب وتختزل أحلام وحنين محبة ضائعة.

في رحاب الألم والاختبار:

لم تكن طريق محروس سهلة بل شهدت العديد من التجارب المؤلمة، خصوصاً في سياق الأزمة السورية التي عصفت بمدينة دوما و عام 2013، في خضم هذه الأزمة العميقة التي مزقت نسيج المدينة، غادر محروس مسقط رأسه، واتخذ موقفاً حاسماً حين تعاون مع لجنة المصالحة للنظام، وهو قرار أثار انقسامات كثيرة بين أهله وأصدقائه، حيث أصبح رمزاً للانقسام في أعين البعض، مما وضعه في مواجهة مع نقاد وجمهور محلي ورغم ذلك، لم تستطع الخلافات السياسية أن تمحي تلك البصمة الفنية التي تركها، فقد ظل صوته يصدح بالحنان ويعبر عن نبض الحياة الشعبية، مؤكدا أن الفن الحقيقي يبقى فوق كل اختلاف، هو ذلك الواصل الذي يربط بين الماضي والحاضر، والحزن بالفرح، والناس بذكرياتهم.

إرث لا يغيب:

ها هو محروس الشغري قد ودعنا فعلياً بموته، إلا أن صوته ما زال حياً في قلوب محبيه كملحمة خالدة من الفرح والحزن والعطاء.

هو الصوت العريق الذي عبر عن تفاصيل حياة دوما بكل شجونها، وثرى الفلكلور السوري بألوانه الحيّة، ليصبح أيقونة فنية تعبّر عن تاريخ المدينة وإنسانيتها بصدق متناهٍ وترك لنا إرثاً غنيّاً من الأغاني والمواويل التي ستُحفظ وتُردد للأجيال، شاهدة على أصالة الإنسان السوري وقوته في مواجهة كل العواصف.

مقتطفات من أعمال محروس الشغري:
يصعب أن ننسى كلمات مواليه التي حملت حكماً وأحاسيساً عميقة مثل موال “صاحب صاحبك سنة وبعد السنة جربو”، الذي ينصح بالحذر من الخيانة ويبرز أهمية الصديق الحقيقي في أوقات الضيق، أو في أغنيته الشهيرة “أول ما كتب القلم” حيث يقول:
“أول ما كتب القلم عن حبّي
كل الدروب صارت لي عطر”
كأن الحب يملأ المكان عطراً يرافقه في كل خطوة. أما موال “نار توجد بقلبي” فيعكس شدة الحزن والذكريات قائلاً:
“نار بقلبي مشتعلة، والدمع ما يخبى
كل ما ذكرت الهوى، صار الحزن قريب”
وفي مواله الذي يحمل معاني الصبر والعتاب، نجد عبق إنسانيته وهو يردد:
“صبر وفآ، يا حيف صار الندل
يا ناس بين البشر طيب، ما دام الحب ما يزل”
صدق هذه الكلمات يجعلنا ندرك عمق صدقه ووفائه في رحلة حياته الفنية والإنسانية.

محروس الشغري، بإرثه الفني والشخصي المعقد، يبقى رمزاً فنياً وإنسانياً لا يمكن لنسيانه أن يغرب، صوتٌ نبض بالحياة، ومصدر إلهام لكل من عرفه وأحب أعماله، مخلداً بذلك في ذاكرة الغناء الشعبي الدمشقي والفلكلور السوري للأبد.

مقالات ذات صلة