الرئيسيةClipsغابة النبي متى في الدريكيش.. سر التاريخ في أحضان الطبيعة

غابة النبي متى في الدريكيش.. سر التاريخ في أحضان الطبيعة

خاص هوى الشام من شذى حمود| في قلب الجبال الغربية لسوريا، حيث تتعانق الغيوم بأطراف الصنوبر، وتغمر رائحة الكستناء الممرات الهادئة، تمتد غابة النبي متى كأنها لوحة رسمتها الطبيعة على مهل، تفيض بالجمال والسكينة والقداسة.

تقع الغابة في ناحية دوير رسلان التابعة لمنطقة الدريكيش في ريف طرطوس، على ارتفاع يقارب 1100 متر عن سطح البحر، لتطلّ من أعاليها على مشهد بانورامي يأسر الأبصار، ويكشف عن واحدة من أندر البيئات الطبيعية في الساحل السوري من حيث التنوع الحيوي والثراء الجغرافي.

موقع يربط الأرض بالسماء
تبلغ مساحة الغابة نحو 650 هكتاراً، منها 450 هكتاراً من التحريج الاصطناعي الذي بدأ عام 1976 و200 هكتار من الغطاء الطبيعي المكوّن أساساً من أشجار الكستناء.

تحيط بها قرى المحيلبة وبيرة الجرد شرقاً، وبمنة وحيلاتا غرباً، وتبعد قرابة 20 كيلومتراً عن مركز الدريكيش و53 كيلومتراً عن مدينة طرطوس.

هذا الموقع الجبلي، المحاط بالينابيع والأودية، جعل منها محمية بيئية طبيعية تتنوع فيها أشكال الحياة بين الأشجار والنباتات والحيوانات والطيور، وتتحول في كل فصل إلى لوحة جديدة من ألوان الحياة.

سبب تسمية غابة النبي متى والإسم الذي حمل الحكاية

تكتسب الغابة اسمها من ضريح النبي متى القابع على قمة جبلها، وهو أحد تلاميذ السيد المسيح الذين عُرفوا بالإيمان والتبشير.

وتروي القصص الدينية أن النبي متى كان في بداياته جابي ضرائب مكروهاً قبل أن يهتدي إلى رسالة المسيح، ويتحول إلى رسول من رسله، في مسارٍ يجسد رحلة التوبة والصفاء الداخلي.

ولهذا السبب، بات الضريح في أعلى الجبل مزاراً دينياً يقصده الزوار من سوريا ولبنان على مدار العام، حيث تتقاطع في المكان القداسة مع الجمال الطبيعي، ويشعر الزائر أن الغابة كلها تصلي بصمتٍ في حضرة التاريخ.—

مشهد طبيعي يأسر الحواس

عند أول خطواتك في الغابة، ستشم رائحة الكستناء الرطبة والصنوبر البري، وستسمع خرير المياه المنبعثة من عشرات الينابيع التي تخترق الأرض في كل اتجاه.

يُقدّر عدد الينابيع الدائمة والموسمية في الغابة بنحو 365 ينبوعاً، تغذيها مياه الأمطار الغزيرة التي يبلغ معدلها السنوي حوالي 1800 ملم.

في الشتاء، تتغطى القمم بالثلوج، بينما تظلّ الأودية خضراء تفيض بالحياة، لتمنح الزائر مشهداً نادراً يجمع بين بياض الجبل وخصوبة الأرض.

التنوع النباتي في غابة النبي متى : غابة من الحياة

تُعد غابة النبي متى نموذجاً فريداً للتنوّع النباتي في سوريا، إذ تضم عدداً واسعاً من الأشجار والنباتات المحلية والمستوردة.

أشجار الكستناء هي الأبرز والأكثر انتشاراً، وتُعدّ رمز الغابة ومصدر جمالها، خاصة في فصل الخريف حين تتلوّن أوراقها بالذهبي والبني لتفرش الأرض كالسجاد الطبيعي.

إلى جانبها تنمو أنواع متعددة من الصنوبر: البروتي، الثمري، الكناري، الأسود، والحلبي، إضافة إلى الأرز اللبناني والسرو العمودي والشوح، وصولاً إلى نباتات أصلية مثل السنديانيات والزعرور والصفصاف والسراخس.

هذه الأنواع، بما تحمله من تنوع جيني وبيئي، تشكل نظاماً بيئياً متكاملاً يجعل الغابة واحدة من أغنى المواطن الطبيعية في سوريا.

الحياة البرية في غابة النبي متى: مملكة الحيوان في صمت الجبل

ليست الغابة موئلاً للأشجار وحدها، بل هي وطن لمئات الأنواع من الكائنات البرية التي تعيش في انسجام مذهل.

في ساعات الفجر، يمكن سماع أصوات الحجل والباشق والهدهد، بينما تحلّق النسور والعقبان في سماء الجبل.

على الأرض، تتحرك الثعالب والذئاب وابن آوى والخنزير البري في مساراتها المعتادة، فيما تلهو السناجب بين أغصان الصنوبر العالية.

وتؤوي الغابة كذلك أنواعاً مهددة بالانقراض مثل الوشق العربي والوبر الصخري والنسر الذهبي، ما يجعلها موقعاً بيئياً ذا أهمية وطنية وإقليمية، يستحق الحماية والرعاية العلمية الدائمة.

مناخ معتدل وأجواء مثالية للسياحة

تمتاز غابة النبي متى بمناخ معتدل صيفاً وبارد شتاءً، مما يجعلها وجهة مناسبة على مدار العام.

ففي الصيف، تشكل ملاذاً للهاربين من حرّ الساحل السوري بظلالها الكثيفة ونسيمها البارد، وفي الشتاء تتحول إلى مشهدٍ أبيض يذكّر بجبال أوروبا بثلوجه الهادئة ودفء الأكواخ الجبلية.

هذا المناخ المتوازن، إلى جانب طبيعتها الغنية، جعلها مقصداً للسياحة الداخلية والبيئية، ووجهة محببة للرحلات الكشفية والعائلية.

غابة النبي متى
الوجه السياحي والترفيهي: بين المغامرة والسكينة

لا تقتصر زيارة الغابة على التأمل والهدوء فقط، بل يمكن للزائر أن يعيش تجربة سياحية متكاملة.

فهناك مسارات مشي جبلية تمر بين أشجار الكستناء والصنوبر، ومسار خاص يؤدي إلى ضريح النبي متى، حيث الإطلالة المدهشة على الغابة والمناطق المحيطة.

كما تضم المنطقة مجمعاً سياحياً معروفاً باسم “أرض الأحلام”، يقدم خدمات متنوعة تشمل ركوب الخيل، الجولات الطبيعية، والألعاب الترفيهية للأطفال، إضافة إلى ساحات مخصصة للتخييم الكشفي والنشاطات البيئية.

هذه المرافق جعلت الغابة نموذجاً للسياحة المستدامة التي تجمع بين الاستجمام والتعليم البيئي والتواصل مع الطبيعة دون الإضرار بها.

الينابيع.. شرايين الحياة في قلب الغابة

من أبرز معالم المكان الينابيع العذبة التي تتوزع في أنحاء الغابة.

منها نبع النبي متى الشهير، وعيون عين حوران وبيلون، التي تضفي على المشهد طابعاً أسطورياً، حيث تتقاطع أصوات الماء مع زقزقة الطيور في انسجام طبيعي مذهل.

هذه الينابيع لا تغذي الغابة فقط، بل تمتد مياهها لتروي الأراضي الزراعية المحيطة، وتشكل مصدراً رئيسياً للتنوع الحيوي في المنطقة.

التراث الثقافي والديني: قداسة المكان وسكون الروح

لا يمكن الحديث عن غابة النبي متى دون التوقف عند رمزيتها الدينية والتاريخية.

فالضريح القائم على قمة الجبل هو نقطة التقاء بين الإيمان المسيحي والطبيعة السورية، ويجسّد في آنٍ واحد حضور الروح وسط الطبيعة.

يُقال إن الزائر حين يصل إلى الضريح يشعر بهدوء غريب لا يشبه أي مكان آخر، وكأن المكان يملك طاقة روحانية خاصة تعيد التوازن للنفس.

ومع كل موسم ديني، تقام زيارات شعبية واحتفالات بسيطة تعبّر عن ارتباط الناس بالمكان وذاكرته، ليبقى الموقع شاهداً على تلاقي الروح الإنسانية مع الجمال الطبيعي.

تحديات الحماية ومسؤولية الاستدامة
رغم جمالها وغناها، تواجه الغابة تحديات متزايدة بسبب الأنشطة البشرية غير المنظمة، مثل قطع الأشجار والرعي العشوائي، إضافة إلى آثار التغير المناخي.

وتبرز الحاجة اليوم إلى تعزيز الوعي البيئي بين الزوار والسكان المحليين، ووضع برامج مراقبة مستمرة للحفاظ على الأنواع المهددة.

كما يمكن للجهات المعنية في وزارتي السياحة والزراعة العمل على تطوير السياحة البيئية في المنطقة، عبر إقامة مسارات مخصصة للزيارة، ولوحات إرشادية توعوية، ومبادرات مجتمعية تدعم مفهوم “الغابة للجميع… ولكن بمسؤولية”.

غابة تجمع الإنسان بالطبيعة
في كل زاوية من غابة النبي متى، تختبئ حكاية صغيرة عن التعايش والسكينة.

هنا تتلاقى الطيور فوق رؤوس الزوار، وتتنفس الأرض رائحة المطر، ويتحول الجبل إلى معبد طبيعي مفتوح على السماء.

الإنسان في هذا المكان ليس زائراً فقط، بل جزء من دورة الحياة التي تحافظ عليها الغابة منذ قرون، وكأنها تقول: من يعتني بالطبيعة، يعتني بروحه.

قداسة الجمال وسحر المكان
غابة النبي متى ليست مجرد وجهة على خريطة السياحة السورية، بل رمز من رموز التناغم بين الإيمان والطبيعة والإنسان.

هي مساحة تروي حكاية الزمن، وتحتفظ في صمتها برائحة الأرض الأولى، وتذكّر كل من يمر بها بأن الجمال يمكن أن يكون صلاة، وأن الشجرة قد تكون مزاراً للسلام.

في ظلال الكستناء، وبين أصوات النسور والينابيع، تبقى هذه الغابة جوهرة خضراء على جبين الدريكيش، تفيض بالحياة والسكينة، وتدعونا جميعاً إلى الحفاظ على ما تبقّى من معجزات الأرض.

مقالات ذات صلة