دمشق – هوى الشام

تضافرت اللغة البصرية في كاميرا الليث حجو مخرج «الندم» مع اللغة الروائية لحسن سامي يوسف (الكاتب) للخروج بحكاية شبيهة بلوحة الجوكندا  تبتسم للمشاهد من أي منظور أراد رؤيتها منه، فلما ابتدأ بحكاية أسرة تقليدية مترسخة في الأذهان منذ مسلسل شجرة النارنج (1989)، تبين أنه إعادة لإنتاج هذا العمل في الزمن الحاضر مع تسليط الضوء على التطور الذي طرأ على الدولة والمجتمع خلال عقدين من الزمن قبل معاودة الانحدار، فأسرة «أبو عبدو الغول» تعكس وجه سورية المحافظ باعتدال والمزدهر إذا ما قورن بمحيطه، على أن العمل سيأخذ بُعداً آخر لتطوّع القصة ومصير شخصياتها لمصلحته فيما بعد ضمن إطار قصصي يتناول قضايا حياتية كالحب والصراع على المال وسوى ذلك.

من ناحية الشكل، اتّبع سامي يوسف أسلوب الرواية ضمن الرواية، ليحكي الصغرى على لسان راويها ومؤلفها عروة الغول، الذي أدى دوره الفنان (محمود نصر)، حيث روى سيرته الذاتية قبل وأثناء نشوب الحرب الحالية في البلاد بالخطف خلفاً إلى تاريخ مفصلي مهد لمشهد الخريف العربي الراهن وهو النكبة العربية الثانية في نيسان 2003.

ولربما لم يعمد حجو إلى اختيار العدسة الملونة عند العودة إلى الزمن الماضي على خلاف الزمن الحاضر الذي تصوره بالأبيض والأسود تغنياً بذلك الزمن الذي لاشك شهدت البلاد خلاله تألقاً ونهوضاً، إلا للتأكيد على فكرة «أسطورة الماضي الجميل» في عيون عروة، ذلك أن بداية النهاية كانت قد بدأت منذ تاريخ سقوط بغداد لنعود مرة واحدة إلى الألوان في مشهد يتيم في الحلقة الأخيرة، وذلك بمخيلة سهيل (أحمد الأحمد) الذي رأى في نومه أفراد الأسرة مجتمعين وقد احتفى أبو عبدو (سلوم حداد) بقدومه قائلاً: «ابن عبدو الغول إلا ما يرجع» في إشارة واضحة إلى أصالة الشعب السوري.

كما لعب سامي يوسف على التناقض بين الروايتين لإيصال الرسالة الأساسية من العمل (الحق في الاختلاف والاشتراك بالخطأ)، وإن تشابه طرفا الصراع (عروة مقابل عبدو) في كلتا الروايتين، فنجد أن الشخصيات في قصة عروة متطرفة في مثاليتها وشرّها، على خلاف الرواية الأصلية التي ترى الأمور بموضوعية أكبر وتعيد تقييم الشخصيات، كما تبين بعد انتهاء رواية عروة التي وضعت أوزارها مع قضاء هناء (دانا مارديني) والتقاء الزمنين الماضي مع الحاضر، حيث لم نعد نرى عروة كلاعب وراوٍ متحيز للأحداث يحاكم الشخصيات ويوجه الجمهور بتعليقاته المستمرة على أغلب المشاهد، ليعود الاتزان إلى الرواية الأصلية ويتحول بدوره إلى شخصية عادية، لها ما لها وعليها ما عليها، بتباين تسرب إلى لاوعي المشاهد، مشاركاً إياه في محاكمة الشخصيات وبلوغ رسالة «الندم».

وعلى الرغم من براعة حجو في التنقل بين الزمنين بعدسته الملونة تارة والشاحبة تارة أخرى، إلا أن توظيف فكرة انتهاء الرواية الأولى خلال الحلقات الثلاث الأخيرة كان ضبابياً بعض الشيء ما خلّف نوعاً من الاستهجان حول التبدل غير المفهوم بالضرورة لسلوكيات الشخصيات.

وبالعودة إلى مضمون «الندم»، تنقّل الراوي خلال الرواية الأولى التي دامت على مدى 27 حلقة بالأحداث بين الزمن الماضي والحاضر، ويأخذنا الفلاش باك إلى تاريخ عائلة آل الغول منذ «تأسيسها» من الصفر إلى بلوغ عميدها أبو عبدو الغول الأوج في المال والجاه، ليرسم حدود تلك الشخصية المركبة الكاريزمية التي تجمع بين الجبروت والعنفوان والأبوية البطريركية بحرفية عالية، وبالرغم من تمسك أبو عبدو بالقيم والمبادئ ارتكب العديد من الأخطاء خلال فترة إدارته لدفة السفينة كالتحيز والمحاباة بين الأبناء، الأمر الذي ساعد على تطور الحبكة وإحداث التشويق، ضمن الخط الرمزي للحبكة الذي يمشي بالتوازي مع سيرورة القصة من دون أن يؤذيها.

وتجدر الإشارة هنا إلى شخصية هشام (جابر جوخدار) الذي اعتقل في زمن الغول الأب، بغية الوفاء لنقل صورة المشهد السياسي في البلاد وقتئذٍ، مروراً على بقية الشخصيات وتفاصيل حياتها من خلافات وحب وغيرها استحوذت على اهتمام الجمهور ضمن بيئة هذا المنزل التي تحاكي واقع سورية حينها، كبلد قوي يجمع ما بين العِلم (ندى/ رنا كرم) والفكر (عروة) والثروة والقوة والقيم (أبو عبدو) إذا ما قورنت بالجوار جنباً إلى جنب الجبروت والتسلط (أبو عبدو، وعبدو/ باسم ياخور لاحقاً)، إضافة إلى سمات أخرى ظهرت مع رحيل العهد القديم، واستحواذ رمز العهد الجديد (عبدو) على زمام الأمور، كالتبدل القيمي وبروز القيم الاستهلاكية (مشهد قطع الأشجار في الغوطة)، وتدهور التفكير الاستراتيجي (مشهد بيع معمل المرتديلا)، والمواربة في التعامل مع المستجدات (أسلوب التعامل مع بثينة «جيانا عنيد» وندى).

في حين اقتصر تصوير عروة في الزمن الحاضر على التوثيق كالصحفي، فخرج بكاميرته إلى شوارع مدينة دمشق، ورصد ما آلت إليه هذه المدينة، وسرد ما وقعت عليه عيناه من أحداث نقلت بأمانة وموضوعية أحوال هذه المدينة من الأوضاع المعيشية المتدهورة والمتسولين في الشوارع، يترافق ذلك بحوارات سفسطائية معهم إضافة إلى سقوط قذائف الهاون، وتغير معالم المدينة، والتلوث البصري الذي حل عليها، متمكناً أكثر من أي عمل سابق من تعريف أبناء الوطن في الخارج إلى مآل العاصمة.

كل ذلك كان مترافقاً مع الفيسبوك المتنقل لتعليقاته المستمرة الإنشائية أو الإيضاحية، وذلك ضمن روايته الصغرى لتنجح الكبرى في إلقاء الضوء على دور الميديا والثقافة في المشهد السوري ومدى مصداقيتها، إذ بدا عروة موضوعياً في التوثيق أحياناً، لكنه متحيز في أحيان أخرى بتصوير شخوصه كعبدو الذي يمثل أحد طرفي الصراع في حبكتي الروايتين.

تكمن لعبة الندم في عكس قاعدة الهرم، فما بدا بالرواية الصغرى على أنه صراع أسري تقليدي بين أشقاء من المفترض أن أحدهم مثالي ومدلل وطيب القلب وآخر جشع وانتهازي وفظ…عاد ليستوي ويعتدل في الرواية الأصلية بعد إزاحة شخصية الراوي الذي حوّر الحقائق، وجيّرها لمصلحته في رمية لرامٍ من القائمين على العمل عن دور المثقفين والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي بالتأثير في المشهد، وليتضح بعد ذلك أن نزعة عروة المثالية هي مقتله، فما هو إلا شخص رومانسي نمطي يكرر أخطاءه (الخيانة في الوقت الحرج كما حدث بعلاقته مع هناء وأوشك حدوث ذلك مع رشا)، واستخدامه الشعارات على نحو ممجوج «أنا ما بدفع مصاري لقاء جسد المرأة»، إضافة إلى إنفاقه اللامسؤول من دون أي جهد أو محاولة لإدارة المال، كل هذا يوحي بأنه شخص منفصل عن الواقع، فهو يفلح بإطلاق النظريات والأحكام أكثر، تماماً كما حدث عندما طلب عبدو من ندى التنازل عن حصتها من تركة الأب، إضافة إلى منزل العائلة معتبراً أنه غارق في الخطأ لكونه جشع ولا يستطيع التراجع عنه، ليتبين أن الحكم على الأخ الأكبر كان خاطئاً حيث حظي أخيراً من الكاتب بفرصة النظر إليه من جوانب أخرى، فإضافة إلى كونه جشعاً وفظاً بدا عبدو ذكياً براغماتياً يتعامل مع المستجدات بحرفية ويركب موجة التغييرات وفقاً لمصلحته ومصلحة العائلة ببراعة، مستفيداً من الفراغ وعدم وجود البديل عنه أو الشريك له في هذه المهمة، كما يؤكد في عدة مناسبات «تمسكه» ببيت العائلة الذي يرى أنه يجب أن يكون مظلة الجميع.

وإذا ما أخذنا بالحسبان أن عبدو يمثل دائرة العائلة نرى أن ندى عادت إليه بعد أن فشل عروة بمساعدتها مراراً، لنلحظ حدوث تحول في شخصيتها دوناً عن الآخرين، إذ استطاعت تغيير اصطفافها بعد مرورها بعدة تجارب تعلمت منها، في حين أن «سهيل» الذي توارى سنوات طويلة عن الأنظار بسبب جور الأب لم يعط شقيقه الأكبر فرصة الدفاع عن النفس بعد أن حصل على أفكار مسبقة عنه من صديق العائلة أبو العز (أيمن رضا) بما يحتمل الصحة والخطأ، معرباً عن فقدانه الثقة به، ليجد «هابيل» بانتظاره وليقفل المشهد على تكتلين متساويين عددياً، الأول واقعي وعملي يركز على الكليات ويعتبرها ثوابت لا غنى عنها أما التفاصيل الأخرى فهي هامشية، والآخر رومانسي حالم ويعنى بالجزئيات ولا يمكنه التغاضي عنها لأنه نزاع إلى الأفضل دوماً.

ورغم التركيبة المعقدة والمسبوكة بعناية حافظ المسلسل منذ بدايته إلى ما قبل النهاية على مستوى عالٍ من المشاهدة والمتابعة الحثيثة لما حمله من مشاهد تتصف بالتميز على مستوى الفكرة والإخراج، لعبت دور الناظم (الكهربائي) في الحفاظ على جذب المشاهدين والمعايرة بينها وبين كميات من الكلام والتنظير، وذلك من خلال التكامل ما بين الجماليات والرسائل المراد توجيهها في هذه المشاهد، ومنها مشهد المسلخ الذي صعّد العنف بين البشر واستعاض عنه بسفك الدماء في المسلخ، ليعرض النشأة الجلفة لآل الغول، وليكون بمنزلة نبوءة بالعنف اللاحق، ومشهد قذائف الهاون، حيث يختلط فيه الممثل بما هو حقيقي أرشيفي، وهو واحد من أكثر المشاهد التي تصف بأمانة وبراعة القصف العشوائي من قبل التنظيمات الإرهابية لمدينة دمشق والطبيعة العبثية للموت.

إلى ذلك، مشهد تكسير أبو عبدو لنظاراته ورغبته باتباع حياة النعامة التي تغرس رأسها في الرمال للهروب من الواقع (آلية النكران) بعد أن خانته حواسه، والمشهد الميلودرامي الذي ألهب مواقع التواصل الاجتماعي عندما اتّبع أبو عبدو آلية النكوص طالباً من ندى تحضير الكعك مع الحليب له (الهروبية) معلناً سقوط هذا العهد (العهد القديم للعائلة).

ومن جملة المشاهد، المشهد الإشكالي الذي تمثل بوجود رشا مع عروة في السرير، والذي كان مفيداً في إزاحة الهالة عنه والتأكيد على عجزه كشخصية فاعلة في المحيط، ومشهد الجنس السوريالي الذي جمع هناء وعروة، حيث بدا وكأنه تزاوج بين الحياة والموت، اتصف بالجرأة ونفذه المخرج ببراعة من دون أن يكون خادشاً للحياء العام، يظهر به أيضاً جانب التضحية والبذل من هناء التي تحتضر.

ولئن حصد (الندم) جماهيرية واسعة أفقية وعمودية؛ جنح في نهايته إلى التضحية بعفوية سيرورة الشخصيات التي بدت تصرفاتها غريبة أو مملة بعض الشيء، لاوياً عنقها لتتناسب والرسالة الأخلاقية والسياسية التي أراد إيصالها، لكن هذه المرة على لسان الكاتب سامي يوسف مباشرة في شعار عريض ظهر على الشاشة: قد أكون على خطأ، ولكن هذا لا يعني بعد أنك على صواب.

صحيفة تشرين