من تساقط الثلوج في دمشق

يحدث مع هطل الثّلج استيقاظكَ باكراً مع شغب العصافير المذعورة، تفتح النّافذة يحتضنك صوت «فيروز»: (تلج.. تلج.. عم تشتي الدنيا تلج ..)،تقاطعه رشقات رصاصٍ مأزومة بوجودها في هذا النّقاء، قد يكون سببها الاحتفاء باستضافة الأبيض قد تكون قادمة من تضامن البرد مع الغدر، قد تكون بشرى لقدوم شهيدٍ جديدٍ إلى حلق الحزن، قد يكون صوت الرّصاص..؟!.. تغلق النّافذة، الأسئلة صارت أكبر من الأجوبة، تعود إلى السّرير، تتدثر بالظلمة، لأن التّيار الكهربائي أيضاً، لا يرغب أن تُدفِئك «فيروز»..؟!!.. يأتي من الطرف الآخر، صوت طفلك وهو يسأل عن المكان الّذي حلّت به عقارب ساعتكَ، تتجاهل النّداء، يُلح، هو مثلك ملّ من لسع «تكات» العقارب الطويلة تحت اللحاف، كان وقت استضافة الفراش محدداً بثلث اليوم، صار شغب المدفأة محاصراً بالدقائق، صار مثلنا مهدداً بصقيع الحلم، صار اللهب فريسة الغائب ومثله لم نعد نرغب بتعداد أسماء المجهول، صار الغيب عبئاً علينا، لم تعد معرفة من يسرق ذهبنا الأسود مهمة، فلا فرق بين «داعش» أو «التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب»، تساوت الوظائف بين علمانية «الأطلسي» وأصولية «جبهة النّصرة»، اجتمعت المتناقضات تحت راية «لواء الاسلام» وَ«تجار الحرب»، لم نعد راغبين بمعرفة لماذا كلّ ذلك، لم نعد قادرين على الاستماع لمن كان جارنا، معلّمنا، قريبنا، صديقنا، بعد أن صار نجماً فضائياً يُحتذى بأناقته البترولية وهو يُدحرج كرة البرد الطائفية في مدافئنا، لم نعد نريد أن نسمع فتواه وهي تجتر حقه التّاريخي بقيادة المجتمع والدّين والدفء، ولم نعد مستعدّين لسماع اكتشافه العلمي الأخير للفوارق الطّبقية والاجتماعية والماضوية والمستقبلية لزمر الدّم في المدينة السّوريّة الواحدة، نحن السّوريين، لم تعد لدينا أدنى رغبة بأن نكون “خير أمّة أخرجت للناس”، بتنا كارهين لدورنا المركزي على خشبة مسرح التّوازن العالمي، ما نرغب به الآن، هو أن نتخلص من هذا البرد، نتخلص من سلّة المعونات الغذائية، من تقنين الكهرباء، من أصوات الرّصاص بمناسبةٍ أو من دونها، أن نتخلص من الغطاء الموفد إلينا من قرارات منظمة إغاثة اللاجئين، المنكوبين، الموالين، المتمردين، ما نرغب به هو التّخلص من مرض انفصام الشخصيّة، من وباء الانفصال عن مصلحة الوطن، ما يريده كلّ سوري هو عودة دفء الحلم إلى مرابع صباحه في هذا اليوم الّذي تهلل به الأرض لاستقبال نتف البياض..
يتقاطع البياض مع رشقات رصاص قادمة من البعيد، يعود صوت طفلك للسؤال من جديد عن المكان الّذي حلت به عقارب السّاعة، يُلح، تتجاهله، يستجير بالسعال، تتحرر من فراشك، تغرس أصابعكَ في شعره، تسعفه بالإعفاء من الذّهاب إلى المدرسة في مثل هذا اليوم، تتأكد من استواء اللحاف فوق جسده، فوق أجساد أطفالك مجتمعين، فوق جسد أمّك العجوز وهي تحتضن صورة حفيدها الّذي أخذته الحرب بسبب اختلاف زمرته الدّموية عن زمرة من كان قبل خمسة أعوام طبيبه الخاص، تطبع على جبينها دمعة، تعود للتأكد من حنان الغطاء على جسد زوجتك، تتأكد من استواء اللحاف على جسدكَ، الأغطية لم تعد مشاغبة كما كانت قبل سنوات الحرب، تآخت مع بلادة من قدّمها لنا هديةً إنسانية، صارت رحماً نتبادل بداخله الحيرة، والتّسابق إلى الهرب من الأجوبة، الأجوبة تفضح بلادتنا أكثر، تتحرر أنتَ من الفضيحة، تلجأ إلى النّافذة، مازالت قطع الثّلج تتدافع إلى حضن الأرض، مازالت العصافير تقيم مهرجان الزقزقة، تحاول أن تشاركها، تقلّدها، تردّ على عتابها، تستنجد بما احتفظت به ذاكرتك من أغنيات فيروز، فتحتل حنجرتك حشرجة اعتدتها منذ سكنتكَ أوهام اللحاف، تؤازرها دمعة، تستجيب العصافير لأغنيتك المختبئة في صدرك، تصفّق بأجنحتها، تردد معك «راجع من صوب أغنية.. يا زمانا ضاع في الزمن صوتها يبكي فأحمله.. بين زهر الصمت والوَهَنِ».. تحاول الاستجارة من الوهن.. ويحدث مع هطل الثلج أن تستيقظ باكراً مع زقزقة العصافير، تفتح النافذة، وتردد مع «فيروز» بأعلى صوتك: «بتخلص الدني ومافي غيرك يا وطني بتضلك طفل زغير»..

صحيفة تشرين

SHARE