هوى الشام | تدور أحداث الرواية في جنوب أفريقيا خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي لدى اندلاع الحرب الأهلية التي نجمت عن نظام الأبارتايد العنصري في البلاد.

منطلقها شخصية مايكل كِ المثيرة للجدل ومنتهاها أسئلة وجودية كبرى تحفزها شرطية الحرب، رواية حياة مايكل كِ وأوقاته للكاتب الجنوب أفريقي ج. م. كويتزي تتناول ما يؤخذ على أنه من المسلّمات في فترات السلم ليصبح موضع تأمل وإعادة فهم أو تشكيل في عهود الاقتتال: اغتراب المرء عن محيطه كونه وسيلة لاستكشاف الذات ـ الجنوح بالحرية حد الاعتزال – يتركنا مع ثيمات معاصرة باتت تشغلنا بشكل متعاظم هنا والآن.

تعود مشكلة الاغتراب/الاستلاب لتشغل العالم منذ مطلع القرن الواحد العشرين كردة فعل على تخمة المعلومات، ويضاف إليها في بلادنا معضلة العوز إلى الحريات وتفوق الآلة (الإنترنت وما تبعه من وسائل تفاعلية) على تطور المجتمع العربي. الرغبة في التحرر – ليس السياسي فحسب- لا تنفك تُثبَط فيتعاظم في المقابل شعور المرء بالاغتراب والقنوط. وحسب أحدنا أن يلوذ بالفرار إلى نفسه وعالمه على إيقاع آلات العنف التي لمّا تستكين لعقود، “فزمن الحرب هو زمن الانتظار وتكبد روتين الحياة والقيام بالواجبات وترقب همهمة الحرب خارج الجدران،” على ما تقترح الرواية التي حازت على جائزة البوكر لعام 1983، ونقلت إلى العربية مؤخراً ربما لهذا السبب بالتحديد.

تدور أحداث الرواية في جنوب أفريقيا خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي لدى اندلاع الحرب الأهلية التي نجمت عن نظام الأبارتايد العنصري في البلاد التي تتشكل إثنياً من (البيض والسود والهنود والملوّنين من الخلاسيين أو الآسيويين). مايكل كِ بطل الرواية “ملوّن” وبالتالي قد يتسنى له التواري والبقاء على الحياد. مايكل لا يلق بالاً لأي من أطراف الصراع فيخوض معركة من نوع خاص وهي النأي بنفسه عما يدور حوله في سبيل بلوغ الحد الأقصى من الاستقلالية والحرية حيث تكمن الموضوعة الرئيسة للكتاب.

وكسواها من الأعمال ذات المزاج العبثي لا تقدم هذه الرواية بونوصات من التشويق المتصاعد. لكنها، وبفعل تراكمي لا تنفك تثير تساؤلات وجودية عبر أجزائها الثلاثة، فتزحف ببطء من التقريرية نحو الشاعرية، ثم تفجّر تساؤلات تتناول الحرية بمفاهيمها المتعددة ابتداءً من المعنى الفيزيائي المباشر – ضد الاحتجاز- إلى معناها المادي عبر اختبار انعكاس تقليص احتياجات الجسد إلى أدناها على حرية الإنسان، وبمعناها الاجتماعي والوجودي في العزلة والاعتزال، وليس آخراً بمفهومها الاستراتيجي عبر التخطيط للمستقبل بفكر وخيال طليق. مفاهيم اختبرها البطل بكليتها في خضم رحلته من المدينة إلى الريف ومن المحيط إلى الذات.

ويفرد الروائي الحائز على نوبل في الآداب عام 2003 أكثر من ثلثي الكتاب للفصل الأول، فيرصد حياة بطله مايكل كِ ضمن مسار زمني تقليدي. يستهل على عجالة بولادته بشفة أرنبية ومن ثم تنشئته وفق تربية مؤسساتية في دار أيتام بعد نبذ والدته آنا له، لتبدأ القصة الفعلية مع بلوغه سن الواحدة والثلاثين. الشاب العجوز – تبعاً لهيئته – كان يعمل في خدمات البستنة في سي بوينت إحدى ضواحي مدينة كيب تاون عندما قررت والدته ذات الصحة المتداعية الهروب من رحى الصراع إلى مسقط رأسها في الريف في مقاطعة برينس ألبرت. غير أنها فارقت الحياة خلال الرحلة برفقة ابنها قبل بلوغ مقصدها. يختبر مايكل حرية من نوع جديد بعد أن صار بمفرده، فيستمتع بالكسل وينعم بروتين متوانٍ. ينأى بنفسه في الريف الشاسع عن الأطراف المتصارعة ويتجنب الانخراط بأية مجتمعات تدأب على تأطير جميع عناصرها، فيفلح غير مرة في الفرار من معسكرات إيواء المتشردين والهروب إلى أماكن مهجورة أو الاعتصام في الجبال فيتسنى له أن يرصد عن كثب تحركات لمتمردين وحملات عسكرية في أثَرهم إلى أن يستقر قرب سد ويعمل في زراعة اليقطين والكوسا فيجد في الزراعة علة لبقائه وهدفاً يحيا من أجله أو عليه. ولن يستمر ذلك لأكثر من موسم زراعي واحد قبل أن يلقى القبض عليه ويحال إلى مؤسسة صحية (مستشفى) بسبب وهنه الشديد الناجم عن سوء التغذية.

نختبر تجربة مايكل كِ مع الحرب على لسان الراوي بمفردات صارمة في دلالاتها لا تحتمل الكثير من التأويل وتتجنب التوصيف بل تتوخى الحيادية وكأنها قلم صحافي يعد تقاريراً ميدانية تتحلى بالموضوعية الظاهرية لنرى في عينيه ما تحجبه حدود الجغرافيا، وفيما لا يبدو – على الأقل ظاهرياً- متحيزاً إلى أي من طرفي الصراع نرصد معه الواقع المرير للحرب من ملاريا ومجاعات وسجون مكتظة وإجراءات قمعية، على أن رفضه المتكرر للطعام يوضح لنا أنه مناهض سلبي للانضواء تحت أية مؤسسات من مستشفى أو معسكرات اعتقال أو غيرها، هو الذي تنشأ في المقام الأول في مؤسسة اجتماعية- دار الأيتام.

يروى الفصل الثاني من وجهة نظر طبيب عسكري يشرف على رعاية مايكل. يتعجب من طبيعة مايكل المتفردة فيجد فيه شخصاً بسيطاً متدني الذكاء إلا أنه يعرف كيف يعيش بل ونجح وسط هذا المشهد العدمي الناجم عن الحرب في بلوغ سبيله الخاص في الخلاص بتفضيله الفرار من المستشفى، فيكتب له رسالة تخيلية بعيد فراره بلغة شعرية تخاطب عقل القارئ وتتركه أمام أسئلة فلسفية غير محسومة، لينصبّ تركيزها تالياً على عدوى نشود الحرية وتوق الطبيب إلى التفلّت من قيد خدمته الإلزامية.

ويحسب لهذا الخطاب قدرته على حمل القارئ على تخيّل صور تجريدية تختلف أيما اختلاف عن التكنيك التقليدي الذي يغرق النصوص عموماً بصور حسية مفعمة بالملامح ثلاثية الأبعاد، ليأتي بذلك منسجماً مع إحساسه في نقل فظائع الواقع الدستوبي زمن الاحتراب: “أرواح تعيش معلقة حية وغير حية في الوقت الذي يتردد فيه التاريخ بشأن المسار الذي سيتخذه”، وتتصاعد حدة القلق الوجودي لدى الطبيب من خلال مقارنة مؤلمة يجريها بين معنى حياته تحت وطأة الوقت المتثاقل وبين التسارع الزمني الذي يختبره المحتضرون: “حتى صاحب حالة الارتجاج الدماغي منهمك في عملية فنائه البطيئة يعيش في الموت على نحو أكثف مما أعيشه في الحياة”.

عبر لغة وجدانية شفافة مُررت مقولات كبرى ضمن خطاب الطبيب الذي له أن يُعمل الجانب التأملي من العقل وأن يخاطب الروح ويبث صدمات صغيرة ومتواترة لدى القارئ على متن جمل قد تضطره للتوقف لإعادة ما قرأه والتمعن في جمالية الصور التجريدية.

يفرد الفصل الثالث والأخير صفحاته المعدودة لمخططات مايكل المستقبلية الرامية إلى العودة إلى مزرعته قرب السد والعمل في زراعة الأرض. ندخل رأس مايكل عبر مونولوج تفاؤلي يجافي النمط السائد للمزاج العبثي، مقدما تصوراً عن رحلته المستقبلية إلى الريف فتنساب الأفكار بوضوح وبساطة رجل متواضع القدرات. يقترح هذا التصور أن مكمن الحل هو تجنب التعقيد، فالمزيد من البساطة تكافئ المزيد من الحرية، إذ يرى ببصيرة شخص ساذج وبتصور رمزي من كويتزي أن الإنسان يستطيع العيش على قطرة ماء: “سينزلها إلى أسفل البئر في عمق الأرض وعندما يرفعها يكون الماء في تجويف الملعقة وسيقول: بهذه الطريقة يمكن أن يعيش المرء.”

تشي هذه النهاية بنظرة مستشرفة إلى المستقبل فتقترح العودة إلى الطبيعة والتّماس المباشر معها، الأمر الذي ينادي به اليوم الكثير من المختصين في مجال الصحة النفسية لمواجهة الاستلاب الناجم عن نمط الحياة المعاصرة ولا سيما مع الغرق المتزايد في دوامة الوسائط الرقمية وما ينطوي على ذلك من انفصال عن الواقع وضعف في الإنتاجية والتأهب للاكتئاب، فيما لا يجد ضيراً في اعتزال المجتمع، بل يرى في هذا الطرح جزءاً من وصفته للتعايش مع الحرب.

استهلال الحكاية مع ولادة مايكل قد يستحضر إلى الأذهان رواية “الغريب” لألبير كامو حيث طرح البطل مورسو ةتساؤلاً صادماً منذ مطلعها عن لزوم حزنه على وفاة والدته، فيما نجد آنا في رواية كويتزي تلعب هذا الدور الخارج عن المألوف بمشاعرها المتبلدة تجاه وليدها مايكل بما له أن يخلّف صدمة عند القارئ ويعزز المزاج العبثي في العمل، فيسلّط الضوء على طبيعة العلاقات ضمن فضاء واقعي تتخلله أحداث لا واقعية كمناخ عام يسود الكتاب.

أما بالتركيز على شخصية البطل، فبوسعنا التقاط ضعف مايكل كِ وتدني ذكائه في مقاربته للأمور مبكراً من خلال بره لوالدته وانصياعه المطلق لرغباتها رغم نبذها له منذ مولده وزجها به في دار للأيتام ومن ثم استغلالها له عند ضعفها، إذ لطالما اعتبر مايكا أن علة وجوده هي خدمتها: “لقد جاء إلى العالم لكي يعتني بوالدته”. ساهم ذلك في فهمنا لبرود دوافعه مع تطور الأحداث بعد أن بدأ في انتزاع هالتها من رأسه شيئاً فشيئاً كما أعطى مبرراً درامياً للانتقال من منطقة إلى أخرى واستكشاف جغرافيا البلاد لدى إصراره على دفن رمادها في مسقط رأسها. التفافه داخل معطفها ربما يعكس طفولته الممتدة إلى مرحلة الرجولة. من هنا، شكّل موتها نقطة التحول في شخصيته من تابع إلى مستقل حر، ذلك أنه وخلال رحلته وحيداً وجد في الزراعة هدفية لحياته بعد أن كانت آنا تشغل محورها.

أسلوب حياة مايكل اختزل تلبية الاحتياجات الحيوية إلى حدودها الدنيا بل وخفّض عتبة الحد الأدنى، فبات ما كان يشبه حيواناً ضعيفاً مثيراً للشفقة مخلوقاً أثيرياً إلى حد ما يحمل مقومات نبيلة تتعفف عما هو بهيمي أو حتى بشري مع ميل يساري عفوي يعلن عن فلسفته في العيش:

– هل مانعت أن يأخذ الجنود خضرواتك؟

– ما ينبت من الأرض لنا جميعاً نحن كلنا أبناء الأرض.

مايكل كِ لا إنجابي، وإذ كان يرى الاستمرارية والبقاء في مزاولة الزراعة، فهو لا يمتلك أي دافع أو رغبة في تكوين أسرة. ورغم تعرضه لتجربة وضعته على المحك حيال اتجاهه الانعزالي عندما حملته إحدى السيدات على ممارسة الجنس معها سرعان ما بدد أفكاراً حميمية راودته بُعيدها ليبقى على مبدئه بما يعكس جو التغريب الاجتماعي الذي يسود الرواية. في المقابل، لم يمانع – في خياله – في أن يلوذ إليه شخص يتجاهل حظر التجول “تخيله رجلاً عجوزاً محدودباً” يتذمر من قلة الموارد فيعلمه كيف للمرء أن يعيش على قطرة ماء فحسب.

وبالتالي، ليس غريباً أن يكون مايكل كِ – هذه الجُبلة الغريبة من السذاجة والنبل والمثابرة والوهن ونبذ الاحتجاز- مصدر إلهام للطبيب في توقه للانعتاق من الحلقة المفرغة التي وجد نفسه وسطها في دوامة الحرب: “رغم رغبته الخيالية في جعل الصحراء تتفتح بأزهار اليقطين، شخص أكثر انشغالاً من أن ينصت لعجلات التاريخ.”

يميل بعض الدارسين إلى اعتبار رواية حياة مايكل كِ وأوقاته جاءت كتكريم للكاتب التشيكي فرانتس كافكا. يدفعنا هذا المقترح إلى مقارنة مايكل كِ مع شخصية يوزف كَ مسلوبة الإرادة الحرة في رواية “القضية”. تكبل يوزف كَ قضية مبهمة بقيود افتراضية قد تُقرأ على أنها أوهام تستوطن رأسه فتثبط تقدمه، عدا عن قيود أخرى كأحكام المجتمع والقوانين الوضعية وبيروقراطيتها وصولاً إلى مفاهيم فلسفية ولاهوتية تركز على محدودية الإرادة الحرة كالجبرية والخطيئة الأصلية وقد تربصت جلّها بالبطل الكافكائي. ينوء هذا الأخير في حمل قضيته وينال حكم الإعدام من دون أن يعلم ما هي تهمته. في المقابل، يتحلل مايكل كِ من القيود والالتزامات التي تفرضها الظروف بمجملها على المرء بل أنه يستفيد من الفوضى التي تعم البلاد لإدراك غايته في بلوغ درجة متقدمة من الحرية والاستقلالية.

من حيث استهل كويتزي الرواية مقتبساً عن هيراقليطس “الحرب أبو الجميع ومَلِك الجميع هي التي تجعل البعض عبيداً والبعض أحراراً،” نجا مايكل كِ بنفسه وبإنسانيته من شرور الحرب وانتصر جولة للحرية. وعطفاً على واقعنا الراهن، لابد أن نتساءل: ألم تخلخل الصراعات في منطقتنا الكثير من المفاهيم السائدة حول قضايا كبرى كالانتماء والهوية وعلة الوجود؟ ألم تأتِ نيرانها على أغلال “وهمية” كبّلت قرارات شخصية لدى الكثيرين ما إن عادوا إلى ذواتهم؟ إنها وبلا ريب لم تترك أحراراً على قناعات بائتة.

خيار دار ورد في نقل رواية حياة مايكل كِ وأوقاته إلى العربية (ترجمة ضحوك رقية ومراجعة عبد الله فاضل) يعيد تسليط الضوء على قضايا معاصرة وربما يشبع رغبة عند القارئ العربي في مقاربة تجارب لبلدان خاضت صراعات مشابهة لما تشهده منطقتنا منذ عقود. تجدر الإشارة إلى أن النص العربي تناغم مع تنوع أسلوبية النص الأصلي بين التقريري والوجداني وصولاً إلى المونولوج التفاؤلي بلغته البسيطة، ونجح في الحفاظ على المزاج العام العبثي للرواية، فكانت الترجمة أمينة في نقل الإحساس والمعنى، ورصينةً أنيقة لناحية اللغة وجماليتها.

الميادين نت – رشا ملحم