فاتن ديركي

خاص هوى الشام | تكتب الأديبة فاتن ديركي عن حياتها فتقول .. ولدتُّ قبيل طلوع الفجر، ومنذ تلك اللحظة ولدتْ حكايتي مع الفجر، فبتُّ أتوق إليه في كل دقيقة من دقائق الحياة، وأكتب من أجله أجمل القصائد والخواطر والحكايا والقصص.

كان شهر ديسمبر في منتصفه، ينثر على الشام رذاذ ثلجه الأبيض، ويغسل الشوارع والطرقات والأرصفة بمطر غيوم تتراكض في السماء، كما تغسل الدموع وجهي، وأنا أُلَفُّ بتلك الملاءات البيضاء التي تشبه الكفن، ويداي ممدودتان على جنبيّ، وكأنني أقدم الولاء بخجل وخوف لحياة عنيدة، تختلف عن حياتي الهادئة في رحم أمي لتسعة أشهر، حيث لا أحد سواي.

أعيش اغتراباتِ الفصول، أسبحُ في لُجَّةِ الموج، أكتشفُ روعةَ الألوان، أطلُّ من نافذتي، أَخْرُجُ من قوقعتيْ، أودِّع لحناً رافق وحدتي، أعيشُ روعةَ الاكتشاف.. وجهَ أبي، ابتسامةَ أمِّي، شروقَ الشمسِ.

وتقول الأديبة فاتن ديركي: أسوارٌ تلفُّني..أمشي في دروبٍ مفخَّخةٍ، أنجو من الألغام، فيصطادني الحزن.. يلقيني حطاماً فوق أشرعة الخوف..أسلكُ طريقَ النجاة، ألتقي خيبتي فتدلُّني عليّْ.

الشاعرة فاتن ديركي

أنكفئ على ذاتي بعدما أزمعت السفر، كالفجر، كغياب القمر، حقيقة تاهت، أين أجدها؟

تلك القُبرة البيضاء التي كانت تقف بجانب النافذة ألمَّت مابداخلي، فابتسمت لي مطَمْئِنة، أردت أن أرجوها كي تحملني بجناحيها وتطير بي نحو الفضاء، فهذا العالم الضيق لايتسع لروحي، ولا لأحلامي، لكنها لم تكترث لتوسلات عينيّ، صفّقت بجناحيها وحيّتني بمودة وحب، ثم طارت مبتعدة نحو السماء.

في اليوم التالي انتظرتُ القبرة طويلاً، لكنها لم تأت، خرجت مع والدي ووالدتي من المشفى إلى المنزل، وبقيت أنتظرها إلى الآن.

بدأت أكبر، لتكبر معي مخاوفى إزاء هذا العالم، وأسئلتي حول الوجود، تلك  التي لم يجب عليها أحد قط، فبقيَتْ معلقة على كتف النجوم، وبقيتُ أغوص في اشاراتها الاستفهامية متعجبة، باحثة عن إجاباتها بين طيات الغيوم، وخيوط أشعة الشمس.

من أنا ؟؟ سؤال لطالما سألته لنفسي، وأنا أبحث عنها بين الأوراق، في وجوه الناس، على صفحة البحر، في ضحكة طفولية رقيقة، بين دموع إنسان حزين..

أسئلتي تغربلُها الحياة، فأهيمُ على وجهي، لماذا جئت؟!

أبحثُ عن نور الحقيقةِ في ذاتي، فأين أنا  بضجيجِ العمرِ والطرقات إلى أين المسيرْ !!

أستطيع أن أقول أنني كنت في طفولتي مختلفة بعض الشيء عن أترابي من الفتيات،  وكنت في المرحلة الإعدادية وكذلك الثانوية أتوه في تأملاتي للحياة.

حلمتُ يوماً أنَّ غيماً نام في قلبي يغني ..

 فانبرت كلُّ الأقاحي تقتفي طيفي كأني..

 أغزلُ الأنوارَ شمساًعانقَتْ في العَتْمِ ظني..

 والورودُ البيضُ أمسَتْ تسرُقُ الأحزانَ مني..

 تحتويني في شذاها تسرُدُ الأخبارَ عني.

حياة فاتن ديركي

تتابع الأديبة فاتن ديركي .. قرأت كثيراً من الكتب الفلسفية، حيّرتني تناقضات الحياة الغريبة، ومفارقاتها التي تركت في نفسي أثراً قاتماً، كنت أحاول محوه، لأعيش كغيري من الفتيات اللواتي تفاعلن مع الحياة بسعادة، دون الغرق في تفاصيلها القبيحة، لكنني كنت أفشل غالباً، وأضيق ذرعاً بأحاديثهن السطحية التافهة، ولا أجد راحتي إلا بين الكتب. في فضاء

صفحاتها أطلق أجنحتي لأسافر بين سطورها مأخوذة بتفاصيل الحروف ورسمها اللازوردي.

بدأت بالكتابة في المرحلة الإعدادية، بعد قراءتي للعديد من الأدباء والأديبات، أمثال كوليت الخوري، وغادة السمان، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وطه حسين. كما اطلعت على الأدب العالمي، لكنني تأثرت كثيراً بالعبقري جبران خليل جبران.

 قرأت له “الأجنحة المتكسرة” و”الأرواح المتمردة “و”النبي” و”المجنون” و”العواصف” و”البدائع والطرائف” وغيرها .

ارتعشت روحي مع قصائده الشعرية، فشرعت بالغناء مع فيروز، برفقة  أنين نايه الحزين، مغتسلة بعطر حروفه، لأشرب الفجر خمراً، في كؤوس من أثير.

 حلَّقْتُ في كون فلسفته الخاصة،فقد كنت أعشق مادة الفلسفة، وقد تفوقت فيها في المرحلة الثانوية، وعقدت مع معلمتها آنذاك صداقة وطيدة، نتناقش فيها حول أمور الحياة.

كما عشقت قصائد الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، تلك التي تخوض في فلسفة الوجود، وتحاكي فضاء التخيل الإبداعي، وترسم الحياة الواقعية للإنسان والمجتمع، وتناقش مسائل الوجودية بعمق وفلسفة خاصة، وأروع ماقرأت له قصيدة السعادة، وركونه في البيت الأخير لحقيقة هذه الجدلية الأزلية حين قال:

ياصاحبي هذا حوارٌ باطلٌ                        لا أنت ادركت الصواب ولا أنا  !!

المحامية فاتن ديركيوتضيف الأديبة فاتن ديركي بعد تخرجي من كلية الحقوق وانتسابي لنقابة المحامين وعملي في مهنة المحاماة، بدأت أعي حقيقة الحياة ، فهي ليست كما نتصورها، والورود التي نسعى لقطفها من حديقتها الواسعة، قد تؤذينا بأشواكها الجارحة.

 وجدتُ الكون يحمل مطرقةً وإزميلاً يحفر بهما في أعماقنا أخاديد نسكب فيها دموعنا ودماءنا، بينما نسير في طرقاته المتعرجة، قاصدين فيها واحة خضراء طالما رسمناها في مخيلاتنا المتعبة، لنتعثر في الطريق إليها بجثث الخذلان.

هالني الظلم الذي يسير متخفياً في أروقة المحاكم، يسرق من أنوارالعدالة مااستطاع، ليغطي سواده وقتامته بلون رمادي يقف على حافة الموت، تاركاً لصُنّاعها نفقاً مظلماً، يضيعون في سراديبه تائهين مابين الحق والباطل، بين النور والظلام.

هالني أن أرى بعض بيوت الزوجية، قائمة على شبكة عنكبوت، ينسج خيوطه الواهية في الظلام من الخيانة والكذب، تمهيداً لنهش شريكه في الحياة.

هالني حجم بشاعة الإنسان، وهو ينثر في الأرض بذور الرذيلة والفساد.

من هذا الواقع ولد مولودي الأول.. كتابي الذي حمل عنوان “نسائم ملوثة” ..

وقد أردت لهذا الكتاب أن يكون صرخة في وجه الظلم الاجتماعي، وبعض القوانين الغير عادلة، فجاءت قصصه الواقعية بعد حالة اختناق من وباء سكن الغيوم، فأمطرت بأمراض وأوبئة قاتلة للحياة ومن فيها .. واستهللت كتابي هذا بمقولة العملاق جبران الذي لخّص الواقع بكلمات تقول:

“لقد فسد المطر بعد احتشاده فوق الأديم..

واستفحلت أمراض الغيوم..

وتمازجت جراثيمها مع الهواء..

فكانت عدوتنا المشؤومة ..

وكنا ضحية تلوثنا بها” ..

رسالة اعتذار الأديبة فاتن ديركي
إلى وطنٍ تربَّعَ في أحداقنا.. فبكيناهُ دماً ودموعاً لا تجفْ

من تلك الرؤية التي كانت دائماً تحشرني في الزاوية، فأبحث فيها عن كوة نور، ولدت مجموعتي القصصية الثانية “رسالة اعتذار من طائر الفينيق”.  التي أتت في العام 2014 أي في خضم أتون الحرب البغيضة ، فكان الإهداء فيها :

 ” إلى وطنٍ تربَّعَ في أحداقنا.. فبكيناهُ دماً ودموعاً لا تجفْ “…

ربما كانت الحياة بعض الأحيان تظلمنا برسم أقدار لانحبها، فنشعر بالعجز إزاء واقع نعجز عن تغييره، حاملين آلاماً أكبر من قدرتنا على التحمل، وربما شعرنا بالخذلان وهو مقتل الروح، لكننا حين نلجأ إلى الله، سيمدنا بقوة تجعلنا نحفر في الجبال، سننهض كطائر الفينيق، نحيا ونتجدد من جديد.

بعد ثلاث سنوات كان المخاض الثالث لمجموعتي الشعرية “حين اعتزلت الغناء” فكان الإهداء: إلى شجرةِ الياسمينِ في بيتِ جدِّي القديم .. وشْوَشَتْني ليلة أمس ثم أومأتْ برأسِها مبتسمةً، لتنهمرَ أزهارُها البيضاءُ بين يديّ، ثم في قلبي، راسمةً فيه وجهَ الأمل بغدٍ أجمل …

وكانت دعوتي فيها من خلال قصائد الياسمين، إلى التشبث بالحياة والأمل، في وقت كنا فيه نتشظى في دواخلنا نحو التلاشي والقهرعلى وطن يضيع من بين أيدينا، ونضيع معه.

هذا الأمل الذي دعوت إليه أيضاً في رواية “سمسق” الحائزة على جائزة ” التكافل الإنساني في زمن الكورونا” التي أعلن عنها رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد الحوراني.

الأمل الذي جسدته أم ياسمين “سمسق” من خلال عطائها الكبير اللامحدود وتضحيتها بحياتها ووقوفها إلى جانب جيهان التي وقفت في إحدى فصول الرواية أمام جثة حبيبها وزوجها الشهيد نوّار تودع رفاته بحزن:

 “أنت لا تشبه نفسك يا نوَّار، فقامتك قد أصبحت أطول، وجسدك يبدو ممتلئاً بشكل كبير.. لم أكن أعرف أن الموت يسبّب التضخم، فعلى حد علمي، الحياة وحدها بمظاهرها الفارغة وإغراءاتها، وقصورها، وأموالها، ومناصبها، وحدها من تجعلنا نصل إلى درجة من التضخم، فنمتلئ غروراّ وصلفاً وقسوة ولا إنسانية!

مولودي الخامس كان مجموعة قصصية للأدب الساخر بعنوان: ” يوميات رجل مدمن” وهو توليفة درامية للوحات تحمل معنى الرد على معاكسة القدر، وظلم الوجود، ونقائص البشر وعيوبهم، والتعبير عن معاناة النفس والآخرين، بأسلوب نقدي ساخر، هدفه إصلاح مواطن الخلل والضعف في المجتمع بدعابة وتهكم محببين.

وتقول الأديبة فاتن ديركي: بعد هذه المحطات المليئة بالألم والولادات الصعبة، كان علي الوقوف في محطة هادئة أنتظر انهمار قطرات من المطر النظيف، فجاءني المخاض لأنتبذ مكاناً قصياً، وأهز بجذع النخلة، فتساقط حروفاً من نور، ولتكون مجموعتي الشعرية “حروف المطر” وفق بحور الشعر الخليل، التي أناشد بها الحياة والناس لكتابة سطور جديدة على صفحات مشرقة بيضاء، فكانت الأمنية:

 إن احتراق دمي زادٌ لقافيتي

ياليت أحرفنا تأتي بلا ترَحِ !!!!

وبين هذه المخاضات كان لابد لي أيضاً، أن أحلّق بجناحي فراشة بيضاء في فضاء العالم الذي أحب”مسرح الأطفال”.

أطفال بعمر الورود ، عالم ساحر من البراءة والنقاء والصفاء، زهور لم تجرحها يد الحياة، لم تدنس براءتها وطهارتها ملوثات الوجود، أغرق في عالمهم الوردي، وأغبط نفسي لأنني استطعت انتزاع ضحكاتهم، وابتساماتهم، من قبضة الزمن البغيض الذي نعيش ..

كتبت لهم مسرحيات عدة، اختلطت فيها الألوان بالموسيقى، والغناء، والرقص، والحب، والفرح، ودروس الحياة وحكمتها ، فكانت خشبة مسرح الأطفال هي الوجه الآخر لمسرح الحياة، فسحة سماوية واسعة أرى نفسي فيها وقد عدت طفلة صغيرة، أركض وراء فراشات ملونة، أستمع بافتتان لطيور تغرّد، أضحك من قلب لاهم فيه.

حكاية ومحطات

ولأن السعادة أمل وحلم يسعى إليه بنو البشر، ولأنها حسب قناعتي لاتكون ضمن إطار واحد بوجه واحد، وإنها ليست بعيدة عنا بل بين أيدينا، إذ يكفي أن نهبها لمن حولنا كي نشعر بها، يكفي أن نرسم ابتسامة على وجوهنا، وعلى شفاهنا، كي تنتقل إليهم بالعدوى.

ولأن الآمال الكبيرة لاتستطيع  أن تحيا وأن تقيم في روح صغيرة، ولأننا نتشارك في كتابة سطور حياتنا بشكل أو بآخر، والفرق الوحيد أن نكون ذلك القطب السالب، بكل ما يحمله من ضعف وجبن وهشاشة ويأس واستسلام، أو نكون القطب الموجب، بما يبثه من محبة وقوة وإرادة وإصرار على الحياة بشرف، والموت بشرف.

لأجل كل هذا كانت ولادة روايتي “كوشي” التي سافرتُ بها نحو بلاد الهند وأساطيرها الغريبة، في قصة يندمج فيها الواقع بالخيال، والأسطورة بالفانتازيا، في تفاصيل تنحو منحى روايات الرعب المثيرة المشوقة. وقد فازت الرواية في القائمة الطويلة لجائزة توتول للإبداع الروائي 2023.

ولأجل هذا أيضاً ولدت فكرة الرواية التشاركية ” القطار الأزرق” في رحلة أردت من خلالها مع ستة من الأدباء، أن نزرع وردة تختلف عن كل الورود، في تربة خصبة من الخيال والجمال، فكان الحلم تذكرة سفر، طرنا به إلى عالم المحبة والطمأنينة والأمان.

تلك هي حياتي أنا فاتن ديركي.. أسعى بكل قوتي لأن أكون أنا في عالم يجنح نحو الجنون ..

هذي أنا….

مدينةُ تعبتْ

 من ازدحامِ ضجيجِها

فمشتْ إلى الأفقِ البعيدِ

تفتِّشُ عن حياةٍ

من سلام

هذي أنا ….

مدينةٌ ثارتْ

 على طرقاتِها

على أحجارِ

رصيفِها المُتعثّرِ

فوق أهدابِ الجراح

هذي أنا …

مدينةٌ نامتْ

على قنديلٍ من رماد

على عيونِ الوقتِ

تحدِّقُ فيها

في مراياها البعيدة

فتنكرُها البلاد

هذي أنا …

مدينة نبتت

على أسوارها

قصيدةٌ حبلى

ستلدُ ذاتَ يوم

دعوا الكلماتِ

تزهرُ في جنباتِها

لتسقطَ ملءَ فرحتِها

لا تمنعوها إذا احترقتْ أوراقُها

وأرّقها الحنينْ

فهل لنا منعَ انتحارِ الياسمينْ..؟!

لا توقظوهُ

دعوه ينامُ

في حضنِ الحمام

سيسقطُ كي يعودَ إلى أغصانهِ

مولوداً من فضاءِ الروح

ليبني لنا قصوراً

حين يصحو

من سلام..

تختم الأديبة فاتن ديركي : هكذا أنا.. أصنع من غيوم الشتاء قصوراً أشرع نوافذها على الأمل، على قمرين هما حصيلة حياتي، ومحط آمالي، قمرين أرى من خلالهما الوجود، مرتدياً شعاع نجمة.

من أمسياتها الأدبية

 أعاند عثراتي بنهوض كبير، وأبني من الحجارة التي يلقيها الشر في طريقي، سلماً أجتاز به الجحيم، لأصل إلى السحاب، وأمد يدي إليه وأسرق الغيث، فيمطر في روحي نشيداً من أمل وأحلاماً وليدة .

هكذا أنا كشجرة الياسمين.. كشجرة السّمسق.. لا تنحني، ولا تذوي، ولا تموت..

 حتى لو ذبلتْ بعض أزهارها، ووقعتْ على الأرض، الحياة بالنسبة لها تستمر ..

كلَّما وقعَتْ زهرةٌ ذابلة، تفتَّحَتْ بدلاً منها عشرات الزهور ..

 كلُّ ما لمسها موتٌ، نهضَتْ في أعماقها حياة.

((  تابعنا على الفيسبوك   –  تابعنا على تلغرام   –   تابعنا على انستغرام  –  تابعنا على تويتر ))

اقرأ أيضا : “دفتر الدراما” مجموعة قصصية جديدة لـ ممدوح حمادة

SHARE